بات من الصعوبة بمكان القدرة على التنبّؤ بتطورات الأوضاع في سورية جرّاء التحوّلات السريعة نتيجة تَعدّد أطراف الأزمة وتشابكات مصالحهم وتمسكهم بالحصول على الرقم الأكبر في المعادلة الجديدة، ففي حين لم يُنه العالَم حديثه عن دخول الأزمة مرحلة ما بعد داعش، استيقظ على نبأ دخولها مرحلة تَغيُّر قواعد الاشتباك وتَدافُع القوى لتغيير التوازنات العسكرية، كُلٌّ لصالحه، إذ قصف الطيران الإسرائيلي بتاريخ 10/ 2/ 2017 ما يربو على 12 هدفا إيرانيا وسوريًّا في سورية، وأعلن الجيش الإسرائيلي إسقاط طائرة إيرانية دون طيار (رغم نفي إيران أن الطائرة تابعة لها) بعد أقل من دقيقة ونصف من دخولها المجال الجوي لإسرائيل، معترفا بتحطم إحدى مقاتلاته «إف-16»، رافضا الإقرار بأنها سقطت نتيجة استهدافها بنيران سورية، ومع ذلك اعتبرت الحادثة هجوما إيرانيا على سيادة إسرائيل، وهو ما يُنذِر بمزيد من التوتر بين القوى الفاعلة على الساحة السورية.
ومن جهة شمال غربي سورية بدأت تركيا عملية غصن الزيتون العسكرية بمدينة عفرين السورية ضد مواقع قوات سورية الديمقراطية خوفا من توازن القوى القائم الذي بات يميل لصالح الأكراد ونظام الأسد وحلفائه الإيرانيين، وتخشى أنقرة أن ينشأ بحكم الأمر الواقع كيان كردي مُعادٍ لها في سورية على حدودها الجنوبية، ولكن يرى المتخصصون أن هذا التقدّم العسكري سيكون بمثابة فقاعة ربما دافعها الرئيسي استعراض القوة التركية لإيصال رسائل معينة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهو ما قد يكلِّف أنقرة كثيرا داخليا وخارجيا، فضلا عن خسائر في المال والأرواح إن لم تضبط تحرّكاتها وتحدّد أهدافها وتحقّقها سريعا، وهو ما لم يحدث، إذ بدأت تدفع ثمنا باهظا بتدخُّلها، فبين صفوف الجيش التركي ضحايا، وإسقاط طائرات، وقد يتطور الأمر إلى خسائر أكبر في الأيام القليلة القادمة.
الموقف الأميركي بخصوص تطورات الأوضاع في سورية ينبئ باستعدادات أميركية غير مسبوقة لمحاصرة إيران واقتلاع جذورها في سورية جرّاء تهديداتها المتتالية للأمن الإقليمي، وفي القلب منه الإسرائيلي، إذ أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية هيذر ناورت في 10/2/2017 تأييدا أميركيا مطلقا -كما أكدت روسيا في جلسة أممية- لحَق إسرائيل السيادي في الدفاع عن نفسها وأمنها ضدّ التهديدات الإيرانية، ومحاولات تثبيت إيران أوضاعها العسكرية بالقرب من إسرائيل، والأخطر من ذلك تأكيدها «نحن نسعى لجهد دولي أكبر للتصدي لأنشطة إيران الخبيثة في المنطقة»، إذ سبق أن أعلنت واشنطن إستراتيجية جديدة لمحاصرة الفاعل الاستعماري الإيراني وتقليم أظافره من خلال سياسة العقوبات الاقتصادية والضربات العسكرية للمواقع الإيرانية في سورية، أسوة باستهداف قاعدة الشعيرات الجوية، إلا أن جلّ هذه التصريحات ظل حبرًا على ورق ولم يُنفّذ في الواقع.
حدّدت إسرائيل منذ بداية الأزمة السورية أربعة خطوط حمراء لا تقبل بتجاوزها، أولها الابتعاد الإيراني الميليشياوي عن خطوط وقف إطلاق النار بهضبة الجولان المحتلة، وثانيها منع حزب الله من استغلال الصراع في تهريب صواريخ داخل الجنوب اللبناني لدعم ترسانته العسكرية، وثالثها منع تمركز الميليشيات الشيعية والمقاتلين الإيرانيين في قواعد وثكنات عسكرية قرب هضبة الجولان، وأخيرا ابتعاد إيران وميليشياتها إلى غرب الطريق الذي يربط بين دمشق ومدينة السويداء في الجنوب لمسافة 50-70 كيلومترا من خط فك الاشتباك في الجولان. وترى إسرائيل أن إيران تجاوزت بعض هذه الخطوط الأربعة من خلال إعادة تموضع الميليشيات الإيرانية وحزب الله في المناطق المهدّدة للأمن الإسرائيلي على بُعد 40 كيلومترا من الحدود الشمالية لإسرائيل، وذلك في إطار مخطط لإنشاء ممرّ على الأرض يصل إيران بالبحر الأبيض المتوسط، والكشف عن بدء إيران تدشين قاعدة عسكرية بحرية في سورية.
وبتعزيز دخول إسرائيل عسكريا على خطّ المعركة باستهدافها 12 هدفا سوريا-إيرانيا عسكريا في يوم واحد، معظمها في العمق الإستراتيجي السوري بدمشق وريفها، فقد نكون أمام لحظة تاريخية فارقة في عمر الأزمة السورية ومرحلة جديدة اتفقت فيها مصالح وإرادات الفواعل الإقليمية والدولية، بخاصَّة الولايات المتحدة، على تقليص الدور الإيراني ومحاصرته من خلال استهداف المخططات الإيرانية التي تسعي بدأَب لقلب موازين القوى العسكرية في معادلة الصراع السوري على نحو يتيح لها النصيب الأوفر، بعد إبداء التيار المحافظ تذمّره من عدم حصول الفاعل الإيراني في الأزمة السورية على ما تنتظره طهران من مناطق نفوذ ووعود اقتصادية نظير دورها العسكري والسياسي الذي أسهم في بقاء الأسد. كذلك تهدف تل أبيب إلى إيصال رسائل إلى تحالف المصلحة الإيراني- الروسي في سورية بأنها لن تسمح بتعزيز القدرات العسكرية الإيرانية على حدودها الشمالية، وأن أنظمة الدفاع الروسية بسورية لن تمنع وقوع غارات إسرائيلية لدرء أي تهديدات.
وأخيرا تشير الشواهد كافة، السياسية والعسكرية والميدانية، للأزمة السورية، إلى أنه رغم اتساع مناطق السيطرة والنفوذ الإيرانية في سورية خلال عام 2017 باستيلائها على المناطق المحررة من داعش، فإن منحنى الدور الإيراني في سورية بدأ يتجه نحو الهبوط بالنظر إلى الفشل الإيراني في تمرير مخطط التغيير الديموجرافي في سورية، وافتقار الدور الإيراني في سورية إلى الحاضنة الاجتماعية، كما هو الحال في لبنان والعراق، وما يتطلبه مشروعها التوسعي من تكلفة مالية ضخمة تركت آثارا سلبية على الأوضاع الاقتصادية في الداخل الإيراني، شكّلت بدورها أحد أهم الدوافع الرئيسية في اندلاع الاحتجاجات الإيرانية التي امتدت من نهاية 2017 إلى بداية 2018، والتي كشفت عن وعي الشعب الإيراني بمدى تأثير التدخل الإيراني في سورية والعراق ولبنان واليمن على مستوى معيشة المواطنين الإيرانيين.
أضف إلى ذلك أن مستجدات الأوضاع في سورية في ما يتعلق بالتدخل التركي في عفرين واستهداف المقاتلات الإسرائيلية، ستقود إلى مزيد من الصراعات على الساحة السورية، وتدفع الولايات المتحدة نحو تكثيف وجودها العسكري وضرباتها الجوية ضد الأهداف الإيرانية، وفي هذه الحالة، وإذا ما استهدفت إيران مصالح الولايات المتحدة وفق تصريحات مساعد القائد العام للحرس الثوري العميد حسين سلامي، الذي قال إن بلاده قادرة على تدمير القواعد الأميركية في المنطقة، وإذا ما تم ذلك دون توافق أميركي - روسي حول الأزمة، فإن القادم سيكون بمثابة حرب عالمية مصغرة على الأراضي السورية.