لم تجد حكومة قطر الغارقة في بحر اليأس من وسيلة لصرف أنظار مواطنيها عن تزايد تداعيات الأزمة التي تعيشها منذ بدء المقاطعة العربية لها سوى العودة مرة أخرى لترهاتها وتخبطها، ومحاولة الترويج لما أسمته «تدويل الحرمين»، والزعم بوجود حاجة إلى إشراف دولي من الأمم المتحدة على أعمال الحج والمدينتين المقدستين، مكة المكرمة والمدينة المنورة. وهي دعوى سبق أن رددها من قبل المرشد الإيراني السابق آية الله الخميني، والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، ونظرة بسيطة لتاريخ الرجلين والطريقة التي كان ينظر بها العالم الإسلامي إليهما كافية لتحديد مقدار الطيش الذي أصاب نظام الحمدين، الذي ينظر إليهما على أنهما قدوة ويقتفي أثرهما. بل إن دعوة القذافي والخميني كانت أقل سوءا مما يتفوه به نظام الدوحة لأنهما تحدثا عن أفكار شخصية، أما النظام القطري، فكعادته دوما، لم يجد سوى الهرب إلى الأمام والزعم بوجود منظمة ماليزية تتبنى هذه الدعوة، وهي منظمة أشبه ما تكون بـ «خيال المآتة»، وليس لها وجود على أرض الواقع.

وبعيدا عن التعاطي بين الدول، والخلاف بين الحكومات، وتباين المواقف السياسية، فقد ظل إشراف المملكة العربية السعودية على الحرمين الشريفين، وتحملها مسؤولية القيام بواجب خدمة ضيوف الرحمن والمعتمرين والزوار، وتهيئة الحرمين الشريفين محل تقدير وإعجاب وامتنان من كافة المسلمين حول العالم، بسبب الجهود الضخمة التي تبذل، والخدمات الهائلة التي تقدم للحجيج من كافة الدول، بغض النظر عن أي عوامل أو اعتبارات سياسية أو اقتصادية، والتسهيلات التي تفوق التصور، والتحسينات والإضافات التي تقوم بها الحكومة السعودية بصورة شبه سنوية، مما استلزم صرف مئات المليارات من الريالات. كما أن الحكومة السعودية تنتقل في مواسم الحج ورمضان إلى جدة ومكة، وتستنفر كافة طاقاتها، وتضع إمكاناتها الكبيرة كلها لخدمة ضيوف الرحمن وزوار بيته ومعتمريه، فأي تقدير أكبر من هذا؟ وقد نالت المملكة بسبب تلك الجهود الكبيرة التقدير والثناء والإشادة، التي لم تتوقف على الدول العربية والإسلامية فقط، بل إن كافة دول العالم ظلت تنظر لها بالإعجاب.

ورغم ذلك لم تسع المملكة إلى محاولة استغلال الحرمين الشريفين في خلافاتها السياسية، حتى مع أشد الدول إرهاباً ومعاداة للسعودية، فحجاج إيران التي يتباهى قادتها بعدائهم للمملكة، ولا تجمعهم بها علاقات سياسية يجدون كل العناية والتقدير، حتى الذين اعتادوا منهم محاولة الخروج عن النص وتعكير صفو الحجاج، بترديد شعارات سياسية معادية للسعودية، تتعامل معهم السلطات بأناة وحلم وسعة صدر، وتتحاشى الاحتكاك والاصطدام بهم، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وتحاول إكرامهم وتقديرهم، وهذا خلق إسلامي وعربي أصيل. وخلال حج العام الماضي ورغم قطع العلاقات مع قطر، وإيقاف الرحلات الجوية، إلا أن الرياض أعلنت ترحيبها بالحجاج القطريين، ليس هذا فحسب بل أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أوامره بنقل الحجاج من الدوحة على نفقته بطائرات الخطوط السعودية، وأن يكونوا جميعا ضمن ضيوفه لحج ذلك العام. ورغم أن الدوحة منعت سفر حجيجها لأداء الشعيرة، إلا أن عددا كبيرا من الحجاج القطريين -فاق أعدادهم في السنوات الماضية- دخلوا المملكة وأدوا مناسكهم بيسر وسهولة، إلا أن المفارقة المؤسفة أن كثيرا منهم عندما عادوا إلى بلادهم تعرضوا للاستجواب والمضايقات الأمنية، بسبب إدلاء بعضهم بتصريحات صحفية تقدموا فيها بالشكر إلى الحكومة السعودية التي أكرمت وفادتهم، بل إن كثيرين منهم تم احتجازهم وتعرضوا للضرب والتعذيب.

الدعوة القطرية التي أغضبت كافة المسلمين في العالم هي في حقيقتها مؤشر واضح على ما وصلت إليه الدوحة من يأس، بعد أن أعيتها تبعات المقاطعة العربية، وأوهنت اقتصادها، وأثارت حفيظة مواطنيها، الذين يريدون لبلادهم علاقات متوازنة مع أشقائهم في دول الخليج وبقية الدول العربية، ويرفضون انسياق نظام الحمدين وراء المحور الإيراني، فالثابت أن الدوحة تعاني بشدة على كافة الأصعدة، وأن المكابرة التي تتمسك بها، وادعائها عدم التأثر بالمقاطعة العربية ليس لها نصيب من الصحة، وهو ما أكدته كثير من التقارير الاقتصادية، لذلك فإن إقدام نظام تميم على تكرار مزاعمه بتدويل الحرمين، اللذين يدرك حساسيتهما بالنسبة للمملكة، يؤكد أنه يستخدم آخر أوراقه، وأنه لم يعد لديه الكثير ليفعله، وقريبا سيرفع راية الاستسلام. لذلك فإن مواصلة المقاطعة وتشديد الخناق على ذلك النظام المارق يبقيان هما الحل الأكثر نجاعة وتأثيرا.

ويبدو أن النظام القطري يريد المشاغبة أو ممارسة التشاكس السياسي، ولم يجد غير هذا الملف، فأراد توظيف قضايا إسلامية حساسة لتحقيق أهداف سياسية خاصة، وهذه أبرز صفات الصغار الذين لا يدركون حقيقة الأشياء ولا يعرفون كيفية توقير المقدسات، وهذا التصرف يدل على مبلغ الحمق السياسي الذي يعاني منه، فقد أثارت تلك الخطوة الطائشة حفيظة مئات الملايين من المسلمين حول العالم، واستجلبت غضبهم، وقد رأينا ذلك في بيانات التنديد العديدة التي خرجت من منظمات إسلامية مرموقة في كثير من الدول العربية والإسلامية.

ختاما، بقي التذكير بأن إدارة المملكة للحرمين الشريفين وشؤون الحج لم تكن خيارا لأحد، وليست قرارا بإمكان أي دولة أو منظمة أو جهة أن تفتي فيه أو تقرر بشأنه، بل هي تكليف رباني اختص به الله سبحانه وتعالى هذه البلاد، قيادة وشعبا، وأوكل إليهم العناية ببيته العتيق ومسجد نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، والمشاعر المقدسة، وقد أدى ملوك هذه البلاد وشعبها تلك المهمة على الوجه الأكمل، وسيظلون يقومون بنفس الدور، ما بقي فيهم عرق ينبض، وسيبقى الحرمان الشريفان دائماً خطاً أحمر لا يمكن المساس به أو تجاوزه.