بات التسامح اليوم ضرورة، لضمان العيش بسلام وأمان، إذ إنه يحمي بطريق غير مباشر المقدرات البشرية والمادية للدول والمجتمعات، وغيابه يؤذن بحلول التشدد وسيطرة التطرف وشيوع موجات «ما أُريكم إلا ما أرى»، وبالتالي تطور الأمر إلى عمليات الإرهاب المدمرة للأرواح والمستنزفة للمقدرات والمعطلة لعجلة الحياة الرغيدة الآمنة المستكنة.
العُمانيون يميلون بالفطرة إلى التسامح، لذا لا نراهم ينخرطون في مكدرات العيش المشترك، ولا منغصات العنصرية والطائفية، فهو مجتمع أبى إلا الانحياز للتسامح سبيلا إلى السلام، وشعارا للأمان، وهو في الوقت ذاته ممارسة عملية من خلال منظومتهم الفكرية والفقهية مما انعكس على سلوك المجتمع والأفراد، فكانت درجاتُ ترقٍ، بدأت بالتسامح وسارت حتى بلغت التفاهم، ثم تجاوزت التفاهم إلى مرحلة العيش المشترك.
وعرف العُمانيون منذ القدم بأنهم مجتمع متسامح، فعُمان من أوائل البلدان التي اعتنقت الإسلام طواعية بدون حرب ولا قتال، وروى مسلم في صحيحه أنه خرج رجل يقال له يبرح بن أسد فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من أين أنت؟ قال: من أهل عُمان، فأدخله على أبي بكر فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم أرضاً يقال لها عمُان ينضح البحر بجانبها، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر». وأخرج كذلك مسلم في صحيحه، باب فضائل أهل عمان عن أبي برزة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا إلى حي من أحياء العرب، فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله فأخبره، فقال رسول الله: لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك.
يتضح بجلاء من خلال هذه النصوص أن التسامح في عمان مبدأ وفضيلة ليست وليدة الحاضر إنما هو إرث إنساني ممتد منذ أكثر من ألف وخمسمئة سنة وربما أكثر بكثير، بل إن الحديث النبوي يبين أن هذا التسامح العماني كان يضرب به المثل في الجزيرة العربية، ولذلك قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشخص الذي تعرض للضرب إنه لو ذهب إلى عمان لما تعرض للأذى، وإنما استقبل بالترحاب وحسن الضيافة.
ومن أبرز مظاهر التسامح في المجتمع العماني -مجتمع التعددية الدينية والمذهبية- أنه لم يعرف أي صراع طائفي منذ أن دخل أهل عُمان الإسلام إلى يومنا هذا، والمتتبع لهذا التاريخ يلاحظ أيضًا أنه لم يسجل حالة عنف أو حالة قتل واحدة حدثت بسبب اختلاف طائفي أو تعصب مذهبي، فالخطاب الديني في عُمان لا يعرف الإقصاء، فالقاعدة عندهم هي أن الأرض أرض الله، تتسع للجميع بشرط تبادل الاحترام والعيش على أساس المشترك الإنساني، ولو عرفت المجتمعات العربية هذا النهج وطبقته كما طبقه المجتمع العُماني لكان طوق نجاة، يحمي ويقي من ذهاب الأمن وخلخلة الاستقرار وتدهور الاقتصاد وضعف التنمية.
وهذا ناتج بعد فطرة المجتمع العماني السليمة، من مساهمة الفقهاء وأهل الفتوى في تشكيل خطاب ديني قائم على التسامح والتعددية والاعتراف بالآخر، كما أن النظام الأساسي للدولة في عُمان، والذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر جميع التشريعات، أسهم في تثبيت ذلك التسامح الفطري، ثم العملي الذي أرست قواعده الفتوى الدينية بأن وضع نظامًا تحميه الدولة وتراقب تطبيقه وتعاقب على مخالفته، يقضي بمنع التمييز على أساس الدين، وحماية حق الأفراد في ممارسة شعائرهم الدينية، طالما أن ذلك لا يخل بالنظام العام أو الأخلاق، فعلى الصعيد القانوني يعتبر التشهير بأي عقيدة جريمة جنائية، كما تنص التشريعات على عقوبة السجن لمن يقوم بإثارة الفتنة الدينية أو الطائفية، وعلى عقوبة السجن والغرامة المالية لأي شخص يسيء إلى الذات الإلهية أو الأنبياء أو أي جماعات دينية شفاهًا أو كتابة أو يُقلِق طمأنينة التجمعات الدينية القانونية، كما أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة قد تسيء إلى القيم الدينية أو تنتهك النظام العام، يعتبر أيضًا جريمة عقوبتها السجن والغرامة المالية.
ومن مظاهر التسامح المميزة استضافة سلطنة عُمان لفيفا من العلماء من مختلف الأديان للتحدث عن التسامح والتفاهم بين الأديان، والمبهج حقًا أن يتم ذلك في المسجد، حيث يستضيف جامع السلطان قابوس الأكبر، هذا الحدث والذي يهدف إلى العمل على نشر ثقافة التسامح والاعتدال، وتعزيز سبل وإمكانات التفاهم والحوار بين الأديان.
ومن مظاهر التسامح الرائعة في السلطنة ذلك الحراك الفقهي الجميل الذي تجسده «ندوة تطور العلوم الفقهية» التي تعقد كل عام كأنموذج حي لخطاب التسامح، حيث تستقبل الندوة ضيوفًا ذوي مكانة علمية ومعرفية من الخليج واليمن والعراق والشام وشمال إفريقيا وغربها وشرقها ومصر والسودان ودول البلقان وإيران وتركيا وشبه القارة الهندية، بل ومن الأقليات المسلمة في الغرب، كل يدلي بدلوه مهما اختلفت الآراء، ثم تطبع هذه البحوث دون حذف أي رأي من الآراء، وإنما تقوم وزارة الأوقاف بالمراجعة اللغوية والإخراج الفني لا غير، إذ لا إكراه على رأي أو فكر، وهو أحد أسباب ديمومة هذه الندوة المباركة كما ذكر أحد الكتاب، وقد اطلعت بنفسي على أعمال هذه الندوة في سنوات سابقة، وهالني حجم التعددية المذهبية في البحوث، فمن السني إلى الإباضي إلى الشيعي إلى مختلف التنوعات الدينية في العالم الإسلامي، في بحوث محكمة ومحكَّمة رزينة متينة.
ولعل المثال الأخير في هذا الصدد يكون من نصيب مجلة التسامح، والتي تتناول كل ما يعمق العيش المشترك ليس بين بني الإسلام فحسب، بل بين بني البشر كافة، فالمسلمون جزء يسير من منظومة المتعايشين على هذا الكوكب.
وفي طريفة من الطرائف المباركة الجميلة ذكر أحد الكتاب العمانيين: أن رسالة مرئية استلمها على هاتفه النقَّال نجحت في عكس التوليفة العبقرية للتسامح تجاه الذات والآخر التي تشكل نسيجا عضويًا في التركيبة العمانية، حيث ظهر في المقطع الشيخ أحمد الخليلي مفتي عام السلطنة، يعقد قِران شاب سني على فتاة شيعية، وكما قال الكاتب: لن تجد هذا إلا في عُمان، وهذا حق، إباضي يعقد لسني على شيعية.
تبدو عمان كأنما استُلَّت من واقع المدّ الطائفي الموبوء بالتعصب المقيت وبالكراهية المنفلتة التي ضَرَبَت منطقتنا العربية بدرجات متفاوتة، ونأت بنفسها عن الاضطرابات وما تشهده العديد من الدول العربية من أزمات وصراعات داخلية طاحنة، لقد أسس النظام الأساسي لعُمان كيان دولة مدنية متسامحة غير متزمتة أو أصولية تستمد جذورها وتشريعاتها من الشريعة الإسلامية.
إنَّ ترسيخ ثقافة التسامح ستسهم بشكل فعال في خلق جيل قادر على تحمل أعباء المسؤولية، وقيادة المرحلة القادمة، وهذا يتطلب تنمية دور المجتمع والأسرة لبناء أجيال تمتلك قيم الحوار وترسيخ الوسطية والاعتدال وتؤمن بالتعايش، لتسهم بدورها في رقي الأوطان وتقدم المجتمعات.
أخيرًا، من الأمور المدهشة جمالًا التي لاحظتها في المجتمع العُماني، أن اسم العائلة يؤنث للمرأة، ويذكر للرجل، فيقال مثلًا فلانة الفلانية، وفلان الفلاني، وهما فتاة وأبوها، أو فتاة وأخوها، جريًا على عادة العرب قديمًا، وهذا لعمرك أساس قويم يرسخ شخصية الفتاة ويقويها في مجتمع ذكوري لا يعطي المرأة حقها ومستحقها – أعني المجتمع العربي بالعموم.