يمر المجتمع الوطني بمرحلة انتقالية هامة تكتنف مختلف جوانب الحياة المجتمعية فيه، سواء الحضارية والثقافية منها أو المؤسسية والتشريعية، وذلك في إطار مشروع التحول الوطني الطموح بجميع متطلباته الإجرائية، وبرامج العمل المختلفة التي تساهم في عملية البناء والتغيير المستهدف، والتي تعمل على التأسيس لمستقبل واعد بجميع مقاصده وتطلعاته البشرية والمادية، وبما يتطلبه ذلك من الأخذ بإستراتيجيات مؤسسية شاملة وقوانين وتشريعات تعمل كمنظومة متكاملة في بلورة رؤيتنا الوطنية إلى واقع نعيشه، وترجمة مضمونها إلى حاضر نشهده ومستقبل زاهر ننتظره.
تتطلب عملية التغيير المجتمعي الوطني المستهدفة إجراءات مبدئية وأولويات أساسية تُمهٍد لعملية التغيير وتؤسس للتحول المجتمعي المطلوب، لتضع بذلك اللبنات الأولى لعملية التغيير المستهدف في أجندة التحول الوطني، وترسم خارطة الطريق لبرنامج العمل والإجراءات المطلوبة للحداثة، بما يساهم في تحقيق انتقال مرحلي مدروس ويحصد نتائج مُثمرة مأمولة، ويحول دون حدوث أي شكل من أشكال التصادم المجتمعي أو المخالفة القانونية أو التشريعية لبنود النظام العام بمختلف قطاعاته ومجالاته.
وتشترك العديد من العناصر أو المرتكزات التي يمكن الأخذ بها والاستناد إليها، كأولويات مبدئية تساهم إلى حد كبير في تحقيق انتقال مرحلي للمجتمع، بما يناسب جميع الأطياف والشرائح ويمهد لمشروع التحول المطلوب؛ وعلى الرغم من اختلاف تلك المرتكزات في درجة أهميتها وعمقها، وفيما تحتاجه من فترة زمنية لنحصد ثمارها من جهة، أو في قوة تأثيرها وفاعليته من جهة أخرى، فإنها جميعها وإن كانت تعمل بمنهج متباين وأدوات مختلفة؛ إلا أنها تسعى بمجملها لتحقيق غاية موحدة وهدف مشترك وهو التحول الوطني.
يحتل تطوير التعليم بمضمونه المنهجي بصفة خاصة والإجرائي والتنفيذي بصفة العموم، الدرجة الأهم من أولويات التغيير المطلوبة وبدايته المرحلية الضرورية، والذي سيُمهد بدوره الطريق الوعر في مجريات التحول، ويساهم في تفكيك التعقيدات إلى مفاهيم واضحة ومفردات مقبولة، فيطوع العقول والنفوس لعملية التغيير من خلال مفردات مدروسة لمحتواه المنهجي بتضمينها مستهدفات التغيير المقصودة، سواء ما يتعلق منها بالجانب العلمي والمعرفي المنفتح على المعارف العالمية والثقافات المختلفة التي تهيئ النفوس والعقول لثقافة القبول بالآخر من جهة، ولتحقيق شراكة معرفية مع مجتمعات العالم بشعوبه المختلفة من جهة أخرى، وذلك بما تحويه مناهجهم من تنوع معرفي مطلوب ومقررات حديثة تواكب التطور العلمي والحاجات التنموية المختلفة، وهذا سيضيف بلا شك إلى رصيدنا العلمي معارف وثقافات مهمة نفتقدها في مناهجنا ومقرراتنا الدراسية على اختلاف مستوياتها التعليمية، والتي يتعلق البعض منها بمقررات علمية تؤسس لعقل مُفكر، وتبني شخصيات تناقش المعارف والمعلومات المختلفة وتخضعها للتحليل والتمحيص والنقد، كالمنطق والفلسفة، أو تهيئ للمناظرة والحوار كالخطابة والإلقاء، أو معارف متنوعة عن تاريخ الشعوب وأديانها وحضارتها ولغاتها، بالإضافة إلى حاجتنا لمراجعة كافة مقرراتنا الدينية، بينما يتعلق البعض الآخر بأخلاقيات التعامل المجتمعي والسلوك الحضاري بين الأفراد ومع الجهات المسؤولة وفي القطاعات المختلفة، كأخلاقيات العمل وثقافته وأساسياته ومتطلباته، وآداب وقوانين التعامل مع المنشآت العامة واحترام الذوق العام والقوانين ذات الصلة وغيره، سواء أكان ذلك المضمون رسميا ضمن المقررات النظامية أو المختارة؛ أما الجانب الإجرائي والتنفيذي فيتطلب تبني طرق التعليم الحديثة التي تقوم على توجيه وتطبيق التعليم بطريقة تحفز على انتهاج أسلوب التفكير العلمي الصحيح في تحصيل المعلومات وجمع المفردات، والقائم على بناء المعرفة وتكوينها وليس تلقينها، بما يحفز العقول على التحليل ويؤصل للإبداع والابتكار، وذلك يتطلب أن يكون المعلمون والأساتذة قدوة ونموذجاً يحتذى به.
ومن جهة أخرى، فإن إعادة هيكلة النظام المؤسسي للقطاعات المختلفة وبما يتضمنه من نظام إداري وتشريعي، يمثل المرتكز المحوري الهام إلى جانب التعليم، فمن خلاله يمكن إدارة عملية التحول نحو الإنجاز الصحيح وتقنين أعماله وفق لوائح ونظم تشريعية واضحة ودقيقة ومحددة، ما يكفل بدوره الارتقاء بأدائها ويُمكِّن من إخضاعها للمساءلة والحوكمة، وذلك يتطلب تكليف قيادات بشرية وطنية ذات كفاءة وجدارة علمية ومهنية بعيداً عن العنصرية والقبلية، وغيرها من أوجه الانحياز التي تضر بمصلحة العمل والوطن، هذا إضافة إلى تحديث وتطوير كافة اللوائح والقوانين والتشريعات بما يناسب تلك المرحلة الانتقالية من التحول الوطني ومتطلبات التغيير، ويساهم في ضبط السلوكيات العامة والأداء المؤسسي وفق نظام واضح ومعروف للجميع.
كما أن الإعلام بتوجيهه نحو خدمة تحقيق أهدافنا الوطنية؛ يلعب دوراً مهماً في عملية البناء الأولي لمجتمع التحول والتغيير المستهدف؛ وذلك من خلال عدد من البرامج التوعوية المختلفة في مضمونها، والمتنوعة في مستهدفاتها، بما يلائم جميع الشرائح والأعمار والطبقات المختلفة، وعبر الإعلام يمكن الحث والتحفيز على كثير من السلوكيات الإيجابية والمطلوبة في المجتمع؛ لإحداث نقلة حضارية شاملة، ومن خلال الإعلام كذلك يمكن تعميم ونشر كثير من الأنظمة والقوانين المطلوب الالتزام بها لعامة الناس، سواء في المنشآت العامة أو غيرها من مؤسسات الدولة بقطاعاتها المختلفة التي تهم المجتمع، كما يمكن نقد واستهجان كثير من السلوكيات السلبية وتوضيح عقوباتها المفروضة؛ وتعتبر الأمانات والبلديات المختلفة في المدن والمحافظات وغيرها شريكاً هاماً في تحقيق عملية التحول؛ بما توفره من منشآت مختلفة، وبما تتحمله من مسؤوليات المتابعة والحفاظ على الممتلكات العامة، وبما تفرضه من قوانين وتضعه من أنظمة واضحة للجميع تخدم المحافظة على الممتلكات وتحترم الذوق العام.
ولعل ما تبادر إلينا من وسائل الإعلام المختلفة عن عدد من السلوكيات التي اختلفت الرؤى حول تقييمها ما بين استهجان ونقد أو تأييد ودعم؛ يتطلب أن توضع الأمور في نصابها من الجهات الرسمية المسؤولة، كل في مجاله، من خلال ضوابط وقوانين معلنة وواضحة ويعرفها الجميع، حتى لا نعاقب من أخطأ أو انحرف عن الصواب بسلوكيات قد لا يتقبلها البعض، أو قد تخالف أصولا شرعية واضحة، أو تكون غير مألوفة مجتمعياً، وذلك في ظل غياب أولويات التغيير أو ضعفها، مع عدم وجود ضوابط معلنة أو قوانين واضحة تحكم تنظيم السلوكيات العامة، وتحافظ على الذوق العام وفق تطلعاتنا الطموحة ومنهجنا الوطني المقصود، وبذلك نرتقي بمجتمعنا ونحافظ على منجزاتنا الحضارية والتنموية؛ في ظل قوانين وتشريعات واضحة معلنة يحرص الجميع على الالتزام بها، وبما يعكس نموذجا حضاريا لائقا بنا كأفراد وكمجتمع يحتضنه الوطن.