ربما يظن البعض أني أعتمد كثيرا على التراث وتاريخنا الإسلامي في استشهاداتي، لكني بعد هذه السنوات في الغرب شاهدتهم يعدّون الحكمة الهندية والصينية القديمة مصدرا لكثير من النظريات، وربما ذلك لأن الشعوب الهندية والصينية هي من دفع هذه الحكمة إلى الظهور بطرق مختلفة، بينما نخجل نحن من إظهارها للعالم الذي هو مثلنا يحتاج إليها.
في الحقيقة، إن الحكمة العربية -والإسلامية خاصة- مصدر غني جدا حتى في أمرٍ مثل الإعلام، قد يعده البعض أداة حديثة.
لذا، دعوني أتتبع معكم سيرة رجل اسمه سهيل بن عمرو، كان أحد خطباء العرب الذين آذوا النبي، صلى الله عليه وسلم.
والخطابة كانت أشبه ببعض القنوات الفضائية اليوم، فما يقوله الخطيب يتناقله الناس، وكان ذلك يؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنه لعنه.
روى الإمام أحمد «5674» عن ابن عمر قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا، اللهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللهُمَّ الْعَنْ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اللهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ». قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ» آل عمران/ 128، قَالَ: فَتِيبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، وتقول رواية أخرى في كتاب سيرة ابن هشام، إنه تم أسر سهيل في بدر، فتقدم عمر بن الخطاب وقال دعني يا رسول الله أنزع ثنيتيه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فصعق سهيل، فلو نزعت ثنيته كيف ينطق وكيف يذهل الناس ببلاغته، وهو تجارته الكلام وحرفته، بل سيغدو بعد عزه مضحكة للناس، فأخذ ينقل بصره بين المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القائد الحكيم، وعمر بن الخطاب الجندي الذي يريد حماية الدولة الإسلامية وقائده، وكأن النبي درس الحالة جيدا، فأشار إلى عمر بالرفض، وقال: «عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمُّهُ»، وكما توقع صلى الله عليه وسلم، فحين تُوفي صلى الله عليه وسلم، وهاج الناس في مكة، قام سهيل بن عمرو كأنما تذكّر رحمة القوي العظيم به، قَالَ سُفْيَانُ: فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَفَرَ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَهَهُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَاللَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ.
قال المؤرخون، فهدأ الناس وبايعوا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم أجمعين.
قبل أيام، اجتمعت هيئة الصحفيين السعوديين برئاسة الأستاذ خالد المالك رئيس مجلس الإدارة، وناقشت عدة بنود أكدت في نهايتها أهمية اللجوء إلى الإجراءات النظامية عند إيقاف أي صحفي.
في الحقيقة، إننا وصلنا إلى درجة من التحضر لنحترم أنظمة موجودة، خاصة فيما يتعلق بالإعلام الذي هو مرآة تعكس تحضر البلد واحترامه حقوق الإنسان، وهو شأن بلغت فيه بلادنا مرحلة متقدمة جدا، فلماذا نسمع هنا وهناك أخبارا تُستخدم ضدنا، ونحن نملك ضوابط ستحمي حق كل متضرر من كتابة أو تحقيق صحفي؟
ثم إن أداة مثل الإيقاف في زمن لا توجد فيه طريقة لضبط النشر وتعدد وسائله ومؤسساته، يبدو غير منطقي، فلو أوقفت كاتبا فأنت لا تعاقبه بل تحوله إلى بطل يبحث الناس عن كتاباته، وسيجد هو طريقة لنشرها، ولن تكون حينها هناك خطوط حمراء يتبعها.
ثم إن ما أشارت إليه الهيئة من ضوابط، يذكرنا بواقعة نشر «واشنطن بوست» مستندات عن حرب فيتنام، وكان أبطال هذا العمل -وبالنظام والأنظمة- معرضين للسجن وفي أميركا بلد الحريات الأول، وهذا دليل على أنه إذا كانت لديك ضوابط للنشر يعلمها الكاتب أو الصحفي، حتى لو وصلت إلى درجة السجن، سيكون ذلك حقك ما دام أخطأ، فلا أحد فوق النظام أو القانون، حتى لو كان كاتبا له شعبية، لكن اتبع النظام وطبق الأنظمة بحذافيرها، وكلنا سنقف معك ولو على أنفسنا، وستكون وصلت بنا وببلدنا إلى مستوى من التحضر ننشده ونريده ونهدف إليه.