عند المقارنة مع التاريخ الإنساني طوال آلاف السنين وصولاً لمرحلة صعود العقل والعلم لما قبل أكثر من قرنين، فنحن نعيش اليوم في أفضل مراحل التاريخ.
يمكننا النظر إلى كل الشرور المستمرة، يمكننا التفكير بشكل جدي بمآسي الحرب العالمية الثانية، يمكننا نحن العرب الشعور بالغضب مما يحدث لنا من أزمات وما نعيشه من حروب وما عانينا فيه من تحديات، ولكن أيضاً يمكننا النظر إلى كثير من الأحداث الكبرى الرائعة.
تمكنت البشرية من اختراع الدولة الوطنية الحديثة، وتعرفنا على دولة المؤسسات أو دولة الخدمات العامة المعنية بواجب تقديم الخدمات للمواطنين، وأصبحت هناك منظومة أمن دولية تم القضاء فيها على القرصنة وقطع الطريق، وأعلن عن وثيقة حقوق الإنسان والمواطن، وحورب الرق بشكله التقليدي بعد أن كان أحد أعمق أشكال الوحشية التي تطبع عليها الإنسان لقرون طوال، وتطورت الاشتراكية والرأسمالية، وتعرفنا على التطبيقات الاقتصادية للرعاية الاجتماعية للمواطنين، وتعرفنا على مفاهيم راسخة ذات تطبيقات واقعية مثل المسؤولية الاجتماعية.
أصبحت هناك دولة مثل سنغافوره تستطيع أن تحقق كثيراً من النجاح التنموي والمعيشي دون موارد طبيعية تذكر ودون الحاجة لخوض الحروب بحثاً عن الموارد، ورأينا دولة مثل السعودية تنتقل من مرحلة صفرية قامت على حياة الريف والقرى والحواضر الصغيرة إلى إحدى أهم دول العالم عمراناً وتنمية.
لقد تحقق كثير من الإنجازات الطبية التي أنقذت البشرية من آلام الجراحة والأمراض المزمنة، وتمكنت البشرية من تطوير مفاهيم الرعاية الطبية والتطعيمات والتي أصبحت من أهم وسائل القضاء على الأوبئة.
وأصبح هناك خيارات من خلال التحصيل العلمي لتحقيق حياة فردية كريمة، وأصبحت لدينا أنظمة تقوم على فصل السلطات الثلاثة لتزيد من فرص تحقيق العدالة الاجتماعية.
هناك نضج كبير حققته البشرية رغم ورطة تطوير الآلة العسكرية، التي كانت من أهم أسباب زيادة ضحايا الحروب والإرهاب، غير أنها أيضاً هي نفس الآلة التي أسهمت في دفع الحياة لتكون أفضل. وقد ظهرت منظومة أخلاق عالمية في العلاقات الإنسانية العالمية، ومكنت وسائل التواصل والسياحة وغيرها من أدوات العولمة من إحداث تقارب ثقافي دولي أسهم في إثراء البشرية، كما أن المنظومة الأخلاقية الدولية لا زالت إحدى وسائل الضغط الأخلاقي على الدول والجماعات، رغم تطور القدرة على تزييف الوعي والتلاعب بالمعلومات.
برزت مفاهيم الإرادة والقدرة على التغيير والعمل على تطوير مهارات التفكير، وتطورت مناهج البحث العلمي وأصبحت وسيلة لتحقيق الإنجازات بعيداً عن الخرافة والتفكير الفردي، وتمت مكافحة الأمية وحدثت ثورة عالمية في القراءة بعد أن سادت الأمية طوال القرون الماضية.
مر كل هذا في رحلة طويلة من الصراعات المميتة، غير أن الرحلة لا زالت مستمرة، ونحن اليوم في عصر الدولة المتعلمة، ولو نظرنا للعالم شرقاً وغرباً فليس هناك أي نموذج صالح للحياة متعلق بالماضي معزول عن الحاضر مصر على جعل الأموات حكاما على الأحياء، فكلما أرادت الدول أو الجماعات أن تستعيد أمجادها الغابرة وحياتها الماضية وتكرار أخطائها الحاضرة، كلما تهاوت وتعثرت وأصبحت عبئاً على العالم.
الانسجام مع المنظومة الدولية العالمية، والإيمان بمنظومة الأخلاق العالمية ليسا بالاستسلام ولا بتغيير المعتقدات، ولكنهما بتغيير الأفكار الضارة وقبول الواقع للعمل على تغييره كي تصبح الحياة الإنسانية المشتركة أفضل.