لا شك عندي في أن الرواية التاريخية مادة متنقلة، تنتقل عبر الأدوار الزمنية، وبحسب الظرف الثقافي لعصر الرواية، تتوارثها الأجيال عبر طرق، بعضها يراكم إضافات متعددة على الرواية تهويلا أو تهوينا، ويضيف إليها تفاصيل هي من تحليلات وتوقعات الرواة، وليست من أصل الرواية، وبعض الطرق الأخرى يساعد على تآكل الرواية، ويسهل فقدان تفاصيل أو محاور رئيسة من متن الرواية.

وعلى هذا الافتراض، لا يعد مخطئا من يقول: إن الرواية التاريخية مادة متحولة، ومتغيرة عن الحدث الأساس وليست مادة متنقلة فقط.

والرواية التاريخية تخضع لجوانب عقلية، وثقافية، ومنهجية، هي من مميزات أو نقائص الراوي أو المؤرخ الذي يكتب لنا الرواية التاريخية، وعلى هذا تجد أن الرواية متشكلة بنَفَس الراوي ورؤيته، ويتجلى ذلك في عرضه الحدث من الزاوية التي تهمه، أو يؤيدها، أو العكس، فتخرج الرواية كما تصورها الراوي في ذهنه وليس كما حدثت على أرض الواقع، ومعلوم أن الإنسان مهما بلغت قدراته وأدواته وآلياته لا يمكن أن يحيط بجميع جوانب الحدث، فليست التفاصيل الدقيقة وحدها التي قد تخفى، بل حتى بعض المحاور الرئيسة أحيانا تخفى وتضمحل وتتلاشى في ذهن الراوي، هذا إذا أحسنّا الظن ولم نقل: إنه تم تغييبها عمدا.

ولرواية الحدث التاريخي وجهان: أحدهما مشتهر، والآخر مستتر، ويمكن تلخيص مفهوم الرواية المشتهرة والرواية المستترة في الحدث التاريخي، بأنه إن كان هناك بعض الروايات التاريخية المشتهرة والمستفيضة بين الناس، فلا بد من أن وراء هذه الرواية المشتهرة روايات أخرى، أو وجوها أخرى للحدث مستترة، إن لم تكن مضادة ومعاكسة لبعض التفاصيل المحورية في متن الرواية، فهي على الأقل مُقلِّمة ومُهذِّبة للرواية المشتهرة، والتي تتصف بالمبالغات المفرطة أحيانا.

والتاريخ صيغة أساسية من صيغ الوجود الإنساني تقتضي التفسير والتأويل، والبيان والتوضيح، وهذا يقتضي تبني مواقف متضاربة ومتقاطعة، بل ومتناقضة في كتابة التاريخ ورصده تختلف باختلاف المؤرخ وتوجهاته وملكاته.

ويعتبر موضوع كتابة التاريخ من المواضيع الجدلية التي لم يتوقف التنظير حولها، لذلك نجد أن الكثير من العلماء أولوا اهتماما كبيرا لموضوع التاريخ ومناهج كتابته، وأبرز العلوم التي شاركت في صياغة هذه النظريات هو علم فلسفة التاريخ، والذي انطلق من مسارين عريضين لبلورة نظرية كتابة التاريخ وروايته، وهما:

الأول: دراسة مناهج بحث التاريخ أو الحادثة التاريخية: وهي ما يعنى بالطرق التي يكُتب بها التاريخ، وكيفية التحقق من صحة الوقائع التاريخية، والكشف عن صدقية الأحداث والرصد وموضوعيته.

أما الثاني: فهو عمل تركيبي يقدم فيه المؤرخ وجهة نظره عن مسار التاريخ ككل. (هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ).

ويقسم الدكتور عبدالله العروي في كتابه المهم (مفهوم التاريخ) فلسفة التاريخ إلى ثلاثة أنواع:

الأول: وهو الألصق بمفهوم الفلسفة التقليدية ويرمي إلى الكشف عن منطق ٍباطني يوحد أغراض الحوادث ويوجهها نحو تحقيق غاية مرسومة.

النوع الثاني: فهو الذي يعكف على المقارنة بين الوقائع، مميزا المهم منها عن التافه، بالنظر إلى مفهوم محوري يمثل قيمة خلقية مثل الدولة أو الحضارة أو الحرية أو العدالة.

النوع الثالث: يعتمد على الاستقراء ولا يكاد يختلف عن التاريخ المقارن، فيبحث عن الظواهر المتواترة والدورية في أحوال الشعوب والأقوام، كالدول قيامها وسقوطها، والثورات فورانها وخفوتها.

ويقودنا هذا التقسيم إلى أن: «التاريخ صناعة وليس مجموع حوادث حدثت في الماضي، فهو تاريخ البشر للبشر وبالبشر، وهو ما يعني ارتباط كتابة التاريخ بالوعي، وعي المؤرخ وأيديولوجيته الفكرية التي توجهه لحظة كتابته الأحداث ورصدها أو تحليلها والحكم عليها -كما ذكر هيجل آنفا في تقسيم مساري فلسفة التاريخ- فهناك الكثير من الأحداث التي تقع في الحياة دون أن يتم الالتفات لها أو تدوينها، فضلا عن جعلها حدثا تاريخيا فاصلا.

إذًا فوعي المؤرخ لا ينفصل عن كتابته للتاريخ عندما يكون معاصرا للأحداث التي يكتبها، وهذا ينطبق على تلك الفئة من المؤرخين الذين اهتموا بصفة خاصة بوصف الأعمال والأحداث، وأحوال المجتمع التي وجدوها ماثلة أمام أعينهم والذين شاركوا في روحها، فهم ببساطة قد نقلوا ما حدث في العالم من حولهم، إلى عالم التمثل العقلي -كما يذكر هيجل- ومن هذه الزاوية «تكون المؤثرات التي شكلت الكاتب هي نفسها المؤثرات التي شكلت الأحداث التي تكون مادة روايته، وروح الكاتب هي نفسها روح الأحداث التي يرويها، فهو والحالة هذه يصف مشاهد شارك هو نفسه فيها، أو كان على أقل تقدير شاهدا مهتما بها»، في حين أن التاريخ النظري وهو ما يطلق عليه هيجل: «التاريخ البرجماتي (العملي)، يحتم علينا أن ندرس الماضي، وأن نشغل أنفسنا بعالم بعيد عنا، وهو يعتمد على التأملات النظرية التي تكون مثيرة وباعثة للحياة في الأحداث بالفعل، فتتوقف على روح الكاتب، ذلك أنها تعنى باستخلاص التعاليم الأخلاقية من التاريخ، لذلك نجد كثيرا أن المؤرخ النظري كأنه يتعسف في ذكر الوقائع التاريخية، لأنه يسقط روح عصره هو على العصور الغابرة» (هيجل: محاضرات في فلسفة التاريخ).

ما سبق يؤسس للمستوى النظري وحتى التطبيقي على مستوى النظرية، ومن هذا التأسيس أنفذ إلى جزئية مهمة في التاريخ وهو تاريخ المجتمعات والدول، والذي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: تاريخ رسمي مكتوب، وتاريخ غير رسمي مكتوب كذلك، وتاريخ شفهي، وهذا الأخير كان يتم تداوله عبر الحكايات والنقولات بلا رصد أو توثيق، غير أنه تم توثيقه في السنوات العشرين الماضية تقريبا بشكل رسمي، حتى من أفواه أولئك القادرين على الكتابة والرصد بأنفسهم.

من هذه الأقسام تتكون غالبا ذاكرتنا التاريخية، والتي تكمن أهميتها في أنها الأرضية الحضارية لمنجز الحاضر والمنطلق الأهم نحو المستقبل، وتكمن الكارثة في ذاكرة الشباب التي تتصف بالهشاشة والضعف أو -على أحسن الأحوال- تتسم بالركاكة المعلوماتية والسطحية المعرفية.

وتاريخ الدول والشعوب عندما يرصد خارج دائرة منطق البحث العلمي، ويقع في فخ الأيديولوجيا، أو سطوة المنتصر، أو الانحياز عن ميزان الحياد إلى أحد طرفي الرواية (مع أو ضد) فإن ذلك كفيل بخلق جيل يسير على نسق متكرر وقوالب لا تعطي حرية الاختيار والمعرفة الأصوب والأنسب لمواكبة الحضارة وسيرها المتقدم، حيث إن «الذين لا يتذكرون الماضي محتم عليهم أن يكرروه» هذا ما قاله (جورج سانتايانا) في عام 1905، بعد يأسه من الجيل الجديد في ذلك الوقت.

الصديق الأستاذ يوسف العتيق، -وهو أحد المهتمين بالمجال- لفت نظري لقضية جوهرية في عملية الرواية الواعية، وهي أن كثيرا من الشخصيات التي أثارت جدلا واسعا عبر التاريخ ينقل عنها ما لم تفعله وما لم تقله، وهذا أوقع الرصد التاريخ في مآزق وورطات علمية عدة، وكان يكفي الأخذ من مصدر أصيل أو قريب من الحدث وفق آلية ومنهجية البحث التاريخي.

أخيرا، الأمل معقود على الباحثين التاريخيين الذين باتوا أكثر وأتقن وأرسخ، وكذلك المؤسسات الأكاديمية والجهات المهتمة كدارة الملك عبدالعزيز والمكتبات الوطنية والمراكز البحثية في نقل تاريخنا من دائرة الرواية المجردة المجتزئة أو المشوهة، إلى دائرة الرواية الواعية، والدراية المتقنة المتينة.