شخصيتان أحببت أن أكتب عنهما اليوم لعظم تأثيرهما في مسيرتي الحياتية، الأول شاعر أمير، والثاني أب ومربٍّ، الأمير عبدالله الفيصل بن عبدالعزيز التقيته في بدايات الألفية، وقد كان في حينها عميدا للأسرة الحاكمة، وقد توفاه الله بعد ذلك ببضعة أعوام، بعد عمر مديد قضاه ما بين العمل الحكومي والخاص، وما بين حبه للرياضة والشعر والفن، فهو الأمير الذي تأسست على يده نواة الرياضة السعودية، وتبلور بوجوده الشعر والفن السعودي كما نعرفه اليوم.

التقيت الأمير عبر قراءة شعره مئات المرات، ووجها لوجه مرة واحدة فقط، وذلك في قصره في مدينة جدة عندما ذهبت للسلام عليه مع المخرج البريطاني الجنسية، السوري الأصل، أنور قوادري، بدعوة من الأمير محمد العبدالله الفيصل، رحمه الله، وذلك قبل البدء في إنتاج الفيلم الذي وثق مسيرة حياته الإدارية والإنسانية (ربع الدنيا)، والذي شرفت بالإشراف عليه، وقد كان اللقاء بطبيعة الحال رسميا كما كنت أتوقع، ورغم أن الرجل الذي كان قد كبر لدرجة لم يكن بمقدوره المشي أو حتى الحديث بأكثر من كلمات الترحيب أو السلام، إلا أنه كان بمقدوره أن يبقى شامخا قادرا على لفت الانتباه وإثارة الإعجاب، خصوصا عندما يتجلى فيه روح الشاعر.

ما حدث هو أنه وأثناء تناولنا معه طعام العشاء وقف أحد مرافقيه ليلقي قصيدة لأحمد رامي كان يقرؤها من ورقة كان يحملها، وقيل لنا إنها عادة يحرص عليها الأمير عبدالله ليكون غذاء البدن متوافقا في اللحظة مع الشعر الذي طالما اعتبره غذاء لروحه، وأثناء قراءة ذلك الرجل الأبيات الشعرية قام بتجاوز شطر لبيت لم يتمكن كما بدا من قراءته بالشكل الصحيح، وفي اللحظة التي بدأ فيها بقراءة البيت الذي يليه إذ بصوت عال وواضح المعالم والحروف يصدح في المكان الذي احتضن عدة عشرات من الرجال، وليسمع الحضور كلمات عربية نطقت كما يجب وبأداء شعري لا يوصف إلا بالكمال، وليعم الصمت المكان، وتبدأ رحلة السؤال بهمسات مع من حولي، هل حقا كان ذلك صوت الأمير الشيخ، وهل حقا صحح من ذاكرته الهرمة رجلا يقرأ من ورقة؟ ولتأتيني الإجابة بنظرات وصمت ناطق مع رد مفاده (تشيخ عظام البشر ولا تشيخ عقول العظماء).

عبدالله الفيصل الأمير الشاعر بعد ذلك اليوم أصبح في مخيلتي عبدالله الفيصل شاعر الشعراء، فمن الصعب أن تصف شخصا أحب الشعر وعاش فيه الشعر وصفا أعظم من ذلك.

أما موسى السليم لمن لا يعرفه فهو المربي الفاضل الذي أدار مدارس الرياض الأهلية في الفترة التي امتدت منذ ما قبل 1979 وحتى عام 1990، وهو الرجل الذي كان بالنسبة لي ولجميع زملائي بلا استثناء البعبع الحنون، نعم (البعبع الحنون)، وهو وصف ممكن إن كنت تعرف موسى السليم، هذا الإنسان الكبير في حنانه وفي عدله وفي رغبته في أن يكون الأب في المدرسة قبل أن يكون الأستاذ في الفصل.

لقد كان للأستاذ موسى الذي كنا نخاف كطلاب أن نرتكب ولو زلة بسيطة خوفا من أن يعني الخطأ ظهور الأستاذ موسى من حيث لا نعلم، فكلما قمنا بشغب طفولي أو بتجاوز نابع عن مراهقة غير منضبطة خرج علينا هذا المدير من حيث لا ندري، وكأنه يملك عصاة سحرية أو بلورة تكشف له وقائع الأمور وبواطن النفوس، ليعاقبنا ويوبخنا بقدر الزلة والتجاوز لا أكثر ولا أقل.

غبت عن المدرسة في يوم بداعي التمارض، حيث قمت بألف حيلة وحيلة لإقناع والديّ بعدم الذهاب للمدرسة، وصدقاني وتركاني أفترش تحايلي وأتمدد كسلي أو هكذا خيل لي، عند التاسعة صباحا وأثناء مشاهدتي بداية بث القناة الأولى رن هاتف المنزل لألتقطه دون تفكير ولأسمع صوتا يقول «ياسر؟؟» ودون تفكير رددت فورا بصوت كامل العافية (نعم.. من معاي)، فرد الصوت (موسى)، فعلقت للحظة أتساءل (موسى مين؟؟) تبا وقعت في الفخ، فقلت (سم يا أستاذ موسى) قال (ما بك لم تحضر للمدرسة اليوم) قلت (مريض شوي)، قال (ما تشوف شر بس لا عاد يكثر مرضك)، قلت له (سم طال عمرك) دون اعتراض ودون محاولة لإقناعه بشيء، لأنني كنت متيقنا أن الحيلة التي مرت على والديّ لم تمر عليه.

بعد أكثر من عشرين عاما على ذلك الصباح قابلت هذا المربي الفاضل في حفل أقيم في مقر مدارسنا بمناسبة احتفال عقد في جنباته، واتجهت نحوه لأعرفه بنفسي إلا أنه كان قد عرفني على الفور، ولأجده وبدون مقدمات يمسك بيدي ويتجه بي نحو راعي الحفل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، عندما كان أميرا لمنطقة الرياض، وليعرفه بي ويقول له بأن هذا الشاب (أنا) كان من أفضل طلبة مدارس الرياض أثناء دراسته.

لم أكن كما وصفني بالتأكيد، ولكن الأب دائما ما يتفاخر بأبنائه، وهكذا كان موسى السليم أطال الله بعمره، وجزاه عن الأجيال التي رباها كل خير، مربيا وأبا ومرشدا لنا جميعا.