تحديات الفرد، وتحديات الناس بعمومهم متنوعة، ومتجددة، وليست مقتصرة على شيء واحد، بل هي عامة، في كل المناحي الحياتية، والغريب أنه مع التطورات المذهلة، يزداد التخلف أيضا، وفي مسائل عجيبة جدا.. شغلتنا ـ أو غالبيتنا ـ المظاهر الشكلية، والأمور الهامشية، والجزئيات الفرعية، وصار سلم الأولويات يسير على غير هدى، وضاع الصوت العاقل المستنير، وسط الأصوات المنفعلة الحادة، وحلت الفظاظة والغلظة، محل الحنو والرحمة، وانتشرت تهم التبديع والتكفير، من كل من يعتقد أنه الصواب الأوحد، وصار التشرذم السمة الغالبة على علاقات الناس ببعضها، وصارت الحياة مسرحا مفتوحا للصراعات العلنية والسرية، وصار الناس ـ كما يقال ـ «أضيع من الأيتام على مائدة اللئام».

المتحكمون في مصائر الآخرين، والذين يظنون أنهم الأحق بتقرير حياة غيرهم موجودون بيننا، وإن تموضعوا بعيدا بعض الشيء، والوعي لا غير سيردعهم، ويوقفهم عند حدهم، ويجعلهم يدركون أن من يريد أن يعزل العالم عليه وعلى مشجعيه خاسر، وأن السباحة مع المتغيرات كفيل بتجاوز التحديات، وليس في ذلك أي طمس للهوية، أو الشخصية..

من يريد إعمار الكون، ومن يريد أن يستفيد مما سخره الله تعالى له؛ عليه أن يستخدم عقله وإمكاناته، ولا يتوقف عند معتقد هذا، وجنسية ذاك، وعليه أن يتفاعل بشكل حضاري مع من حوله، ويستمع للعظام السابقين، من أمثال ابن رشد القائل في كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال): «ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم؛ فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم»، ويضيف إضافة غاية في الدقة ويقول: «النظر في كتب القدماء واجب بالشرع؛ إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها، وهو الذي جمع بين أمرين أحدهما: ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية؛ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى»..

قضايا الدين والمجتمع، وحكم الشرع في علوم الأوائل قضايا جوهرية؛ تدل على أن الحياة خذ وهات، وأخذ وعطاء، وأنها متراكبة على بعضها، ومن يريد أن يفرض احترامه على غيره، ويحقق ذاته؛ عليه أن يفهم ذلك جيدا، وأن يدرك أن دين الإسلام أكبر من أن تهزه تيارات فكرية، أو مذاهب اعتقادية، وأن المتغيرات الحضارية لا ينبغي أن تشعر الإنسان بفقدان التوازن، أو تصيبه بالفزع، أو تمثل أي استفزاز له، وما على العاقل إلا حسن التعامل مع الواقع فقط..

تجاهل الواقع خطأ كبير، والرفض والشجب، أو حتى الإدانة والاستنكار ستجعل الناس يدورون حول أنفسهم فقط، وفي نفس الوقت يبتعدون عن الأخوة المحلية والعالمية، وعن المشاركة الفاعلة في تقرير المناسب لهم، وستحبسهم في وسط صغائر المسائل، وستفقدهم الوعي اللازم بالأبعاد الحقيقية للحضارة الكونية، وتجعلهم منفذين لمقولة القائل: «مكانك سر».