من المؤسف إهدار أهلية العقل البشري للتفكير المستقل، وحقه في اتخاذ القرارات، والمواقف الفكرية باستقلال تام. هذا ما يقفز لذهني حين أطلع على ظاهرة تكاد تصبح علامة على صفحات الرأي المحلية، أعني بها عزوفا كثيرا من الكتاب عن تناول الموضوعات والقضايا التي تمس حياة الفرد والمجتمع، إلى تناول ذوات أخرى بالتحليل الذي يقصد منه التجريح، والسخرية، والطعن في القيم، لمجرد الاختلاف في الرأي.

أصبح كثير من الكتّاب يبحث عن موضوعاته للكتابة لا في الواقع، وإشكالات الواقع، بل في مواقف الكتاب الآخرين، ولا أعني بذلك أن يواجه الكاتب الرأي بالرأي، ويقيم المقال على حوارية ذهنية راقية، إنما أعني تلك الكتابات التي تأتي مفرغة من الرأي، ومتفرغة لانتقاص حق كاتب آخر في استقلالية الرأي.

هذه الظاهرة تعمل مؤخرا على تفريغ الفضاء الإعلامي من وظيفته، ومن ثقله، ومن تأثيره، فإذا زاد تفشي هذه الظاهرة لن يجد القارئ على صفحات الرأي سوى تراشق وصراعات على مستوى الذوات لا الموضوعات، بينما يفتح القارئ الصحيفة باحثا عن الموضوع الدسم الذي يمس قضاياه مهما كان قائله، ومهما كان تاريخ قائله، فالرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال. وتأثير الإعلام الإيجابي يستمد من لغته التداولية وبنيته الحوارية، لا من إقصاء الآخر وإهدار حق المتلقي في الاستفادة من تعدد وجهات النظر.

يتذرع أصحاب هذا التوجه من الكتاب بالوطنية، فنجده يخصص مساحة لا يستهان بها، للقدح في ذات كاتب آخر (لا في رأيه) وفي تقييم وطنيته وتصنيفه، بينما أمكنه في تلك المساحة أن ينشغل بما قد يفيد القارئ، ويضيف فكرة أو يحاور أخرى، ويكون صوت المواطن وعين المسؤول ليحقق المواطنة بطريقة مسؤولة واعية وناضجة وفاعلة.

هذه الظاهرة لا تحقق أي هدف يمكن احترامه، حتى في الدفاع عن ساحتنا الوطنية، فذلك الهدف السامي لا يتحقق بأن يفرغ الكاتب مقاله في تشخيص الذوات المعادية، بل أن يقابل الحجة بالحجة ويقرع الفكرة بالفكرة، بل إن المساس بقيمة ذات أخرى (مهما كانت قيمتها الإنسانية والفكرية هابطة) قد يضر بموقف الكاتب، ويقلل من موضوعيته، ويهز مصداقيته أمام القارئ المحايد، وذلك يسيء لأهدافنا الوطنية أكثر مما يخدمها.

لقد أصبحت المقالات -ويكاد الأمر يطال مساحة الأخبار- مضمارا للسباق في مهارات القدح والشخصنة واللغة الهابطة والتخوين، ومن يقارن إعلامنا المحلي بنفسه قبل سنوات يجد الفرق هائلا، على مستوى المضمون واللغة والأدوات والمصداقية والاحتراف، وسيصدم من مسافة الهبوط التي انـحدر إليها. يؤسفني أن يتراجع إعلامنا من قدراته احترافا ومهنية، ومن قدرته على استقطاب القراء من خارج البلاد، وعن موقعه نموذجا إلى موقع المقتدي والتابع لمدارس إعلامية كانت -ولا تزال- محل السخرية.

أكتب هذه السطور وأنا أرجو أن أكون مخطئة، بل سيسعدني أن يرد علي أحد بخطأ ملاحظتي، وبأن نظرتي محدودة، وتشاؤمية، لكني أرجو كذلك أن يكون دافع من يفعل ذلك نزيها، ويركز على الفكرة لا على شخصي المتواضع، فلن يجد لدي ما يغري شهية عشاق القدح، إذ سيهدر حبره على اسم لا يعني شأنه أحدا سوى أسرة محبة وبضعة من الأصدقاء الأوفياء!