لا يزال مستقبل خطة العمل الشاملة المشتركة، أو ما يعرف بالاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1، غامضا ومتأرجحا، رغم كل التصريحات المناصرة أو المناهضة له. منذ بدء حملته الانتخابية قبل عامين تقريبا يقدم الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب الوعود بإلغاء الاتفاق كاملا، ثم تطور الأمر إلى ضرورة إصلاح الاتفاق النووي ليشمل بوضوح وجلاء عدة نقاط مهمة عند الحديث عن النظام الإيراني، من بينها برنامج تطوير الصواريخ الباليستية، والسلوك الإيراني في المنطقة. في هذا الصدد رفض الرئيس الأميركي التصديق على الاتفاق النووي أكثر من مرة، وفي نهاية المطاف أحاله إلى الكونجرس الأميركي ليعاد النظر فيه بعد ستة أشهر. الجانب الأهم الذي صاحب هذا الموقف الأميركي الأخير هو إعلان ترمب صراحة أن المفاوضات المستقبلية حول الاتفاق النووي ستكون مع الشركاء الأوروبيين، وهذا يعني أن تركيز واشنطن في المرحلة القادمة سيكون منصبا على جذب الأوروبيين إلى الموقف الأميركي.
ما إن كشف ترمب عن موقفه من الاتفاق النووي مع إيران حتى سارعت الدول الأوروبية إلى إعلان تمسكها بالاتفاق، وإن انسحبت منه واشنطن. أيضا ركز اللوبي الإيراني والشخصيات التي كانت منخرطة في تفاصيل الاتفاق النووي في الغرب على أن الاتفاق ليس بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، بل بين إيران ومجموعة 5+1، ومن ثم فإن أي انسحاب أميركي سيجعلها في عزلة دولية، ويسيء إلى صورة أميركا في العالم. للوهلة الأولى قد يكون في هذا الموقف شيء من الواقعية، لكن الأهم إدراك حقيقة أن الاتفاق النووي مشروع أميركي بالدرجة الأولى خلال فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وألحقت الدول الخمس الأخرى لأسباب ودوافع تهدف غالبا إلى إضفاء الطابع الدولي على الاتفاق، لا سيما أن قرارا سيصدر من مجلس الأمن في هذا الخصوص، وأيضا قرار آخر بتجميد العقوبات المفروضة على طهران بسبب برنامجها النووي.
عموما، الموقف الأوروبي كان ثابتا وصامدا أمام الموقف الأميركي، ولكن ساد اعتقاد بأن الدول الأوروبية كانت تحاول الضغط على الولايات المتحدة وتحاول إقناعها بأهمية الاتفاق وثنيها عن المساس به، ولكنها في نهاية المطاف قد تنصاع للرغبة الأميركية متى أصرت واشنطن على خطوة ما، وبالفعل شهدنا خلال العام الماضي تأرجحا واضحا وتناقضات في التصريحات الأوروبية بشأن مستقبل الاتفاق النووي. على الجانب الآخر يبدو أن الإدارة الأميركية أدركت أن الأوروبيين لن يستمروا في الالتزام بالاتفاق النووي إذا انسحبت واشنطن منه أو أصرت على تعديله، لذلك قال ترمب إن التفاوض سيكون مع الأوروبيين لا الإيرانيين، مما دعا وزير الخارجية الإيراني إلى التوجه إلى القارة الأوروبية والاجتماع مع الأوروبيين في بروكسل.
ويبدو أن بعض دول الاتحاد الأوروبي أصبحت تفكر في تعديل للاتفاق النووي المبرم، لأن كثيرا من الخبراء في العقوبات رجحوا أن الاتفاق لن يستمر بعد الشهر الخامس من هذه السنة، إلا إذا قام الاتحاد الأوروبي بالفعل بإصلاح بنود الاتفاق والتفاوض مع أميركا على تعديله، كما يقول كثيرون إنه إذا انحصر الأمر في الخيار بين إيران والولايات المتحدة فإن الاتحاد الأوروبي لن يتخلى عن أميركا. في هذا الصدد ذكرت صحيفة «دير شبيغل» السبت الماضي أن ألمانيا تمارس ضغوطا بين الحلفاء الأوروبيين للاتفاق على عقوبات جديدة ضد إيران، في محاولة لمنع الرئيس دونالد ترمب من إلغاء الاتفاق الدولي الذي يحد من برنامج طهران النووي. ولعل الأحداث الأخيرة المتعلقة بمداهمة مجموعة واتهامها بالتجسس لصالح إيران ترفع وتيرة توقعات ببداية توتر في العلاقات بين إيران وألمانيا بالتحديد. في هذا الصدد طرح موقع «دويتشه فيله» إمكانية فقدان دعم ألمانيا للاتفاق النووي. وقال السياسي الألماني راينهولد روبيه عضو الحزب الديمقراطي الاشتراكي الوسطي، إنه يجب مراجعة العقوبات مرارا وتكرارا لتحديد ما إذا كانت كافية أو ما إذا كان يجب زيادة الضغط على إيران. وأضاف أن الأوروبيين مسؤولون عن فحص دقيق لما يحدث للمال وما يستخدم، وتساءل عن وجود ضمانات بأن الناس يحصلون فعلا على فوائد الاتفاق أم أن المال يذهب إلى غير محله، لأن المجتمع الأوروبي يعلم أن الفساد في إيران مستشرٍ بشكل رهيب. أما الموقف الروسي من مستقبل الاتفاق النووي مع إيران فقد كان صادما للبعض، إذ صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف للصحفيين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك مؤخرا بأنه لا يمكن تنفيذ هذا الاتفاق إذا انسحب أحد المشاركين منه بشكل أحادي، سينهار ولن يكون اتفاقا حينها، متوقعا أن الولايات المتحدة ستحاول إقناع الدول الأوروبية لاتخاذ نفس الموقف الذي اتخذته واشنطن. أما الدول الثلاث المتبقية، بريطانيا وفرنسا والصين، فلم تعلن عن مواقفها بوضوح حيال مستقبل الاتفاق النووي إذا ما قررت واشنطن الانسحاب منه أو أصرت على تعديله.
يعتقد كثير من المحللين السياسيين أن لندن وباريس لن تتمكنا في نهاية المطاف من التحليق بعيدا عن موقف واشنطن، وإن حاولت ثني الأخيرة عن مواقفها حيال الاتفاق النووي، ومن المتوقع الضغط على الصين وروسيا ومن ثم إيران للقبول بخطة عمل مشتركة جديدة قائمة على السابقة، ولكن بعد تعديل بعض البنود وإيضاح أخرى، وتأكيد تفتيش المواقع العسكرية الإيرانية المشبوهة متى دعت الحاجة إلى ذلك. هذا المسار إن تم -وهو الأقرب في نظري- سيكون بداية لمفاوضات ماراثونية جديدة بين إيران والقوى العظمى، قد تستغلها طهران لممارسة مزيد من الضغوط على المجتمع الإيراني، بخاصة الشعوب والأقليات العرقية في الداخل الإيراني. لتجنب ذلك فإن الحل يكمن في تحديد مدة زمنية قصوى للمرحلة القادمة من المفاوضات، إن حدثت، حتى لا تستغل طهران المفاوضات لخدمة سياستها الداخلية والخارجية على حد سواء.