ظلت العلاقات الباكستانية ـ الخليجية ـ السعودية بصفة خاصة ـ طوال العقود الماضية في مستوى رفيع من الفهم والتعاون والتنسيق وتبادل المنافع مهما اختلفت وتبدلت الواجهات الحاكمة في إسلام أباد. وعرفت العلاقة مع الرياض فترات اتسمت بالحرارة والازدهار والقوة. فقد شهدت العلاقات عقداً ذهبياً إبان تولي الجنرال ضياء الحق وارتفعت وتيرة التنسيق ومستواه إلى درجات عليا من التفاهم حول القضايا والمواقف الدولية والإقليمية. وكانت فترة حكومة نواز شريف أحد المواسم الدافئة في هذه المسيرة. ورغم ما يمكن أن يوصف بأنه اختلاف في الرؤية تجاه بعض القضايا في فترات حكم حزب الشعب بزعامة آل بهوتو إلا أن العلاقات السعودية الباكستانية ظلت في حال ممتازة ولم تتعرض لاختبار يشكك في متانتها.
وكانت الظروف السياسية الدولية ـ إبان فترة الحرب الباردة وسياسة الاستقطاب بين المعسكرين الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة والعداء المزمن بين باكستان والهند. كلها عوامل مساعدة على تمتين العلاقة بين باكستان ومنطقة الخليج، وبقيت في حال من الاستقرار والنمو، والتقارب والتنسيق الأمر الذي استفادت منه باكستان على المستوى الاقتصادي وانعكس إيجابياً على منطقة الخليج على المستوى السياسي والأمني. وكانت المؤسسة العسكرية الباكستانية تحظى باحترام وتقدير وثقة الخليجيين، وساهمت في تعليم وتدريب الكثير من عناصر جيوش المنطقة، حيث كانت البحرية الباكستانية، من خلال كلياتها ومعاهدها وقواعدها، مكاناً لتعليم وتدريب رجال البحرية السعودية طيلة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وقدم الخليجيون العون والمساعدات للحكومات الباكستانية المتوالية، على اختلاف أحزابها الحاكمة، حتى يمكنها مواجهة المصاعب المالية والمشاكل الاقتصادية خلال عشرين عاماً الأخيرة. وشهدت فترة مساندة الأفغان ودعم مقاومتهم للاحتلال السوفييتي ـ في منظومة الدول التي ساندت ما عرف بالجهاد الأفغاني ـ تنسيقاً وتعاوناً بالغ الدقة والتناغم وتدفقت الأموال ونشطت حركة انتقال الناس وتبادل المنافع. ورغم مجيء الجنرال برويز مشرف إلى الحكم بانقلاب عسكري على حكومة صديق السعودية نواز شريف وتعرض حياته للخطر ـ لولا تدخل المملكة ـ فإن علاقة السعودية بباكستان ظلت ممتازة وسارع في وتيرتها وزيادة تنسيقها ما عرف بمحاربة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
وطوال العقود الماضية ظلت العلاقة المميزة بين باكستان والسعودية تلقي بظلالها على العلاقة مع الهند، فرغم حرص الطرفين ـ السعودي والهندي ـ على حفظ العلاقة في مستوى الصداقة والتعاون وتبادل المنافع إلا أن علاقة العداء المزمنة بين باكستان والهند، وما يتصل بها من تداخلات، على المستوى الإقليمي والدولي، كانت تؤثر سلباً على العلاقة مع السعودية وتسمها بشيء من البرود أو لنقل عدم القدرة على تجاوز حاجز تعارض المواقف الباكستانية الهندية التي عاشت لعقود في حال صدام ونزاع. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار "رابطة" الدول التي تدور في فلكه، وتخلصت دول العالم الثالث من "ضغط الانحياز" إلى أحد المعسكرين ودخول منظمة التجارة العالمية بروحها وأنظمتها وقوانينها وما أحدثته من تغييرات على مفاهيم السيادة وضوابطها، شهدت العلاقة السعودية الهندية تحسناً وعرفت طوراً من التقدم والتنوع على جميع المستويات. وكانت زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز تتويجاً لهذا المسار الذي أصبح توجها واضحا للتواصل مع هذه الدولة ـ القارة ـ المتقدمة نحو الصفوف الأولى في قيادة العالم.
مسيرة علاقة باكستان مع بقية دول مجلس التعاون تفاوتت بعدا وقربا، فالعلاقة مع الكويت ـ قبل غزو صدام ـ كانت علاقات عادية متأثرة بالعلاقة مع الهند، فكويت الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان مزاجها "عروبيا" فاتحة نافذة على الهوى "اليساري". وعلى ضوء هذه "النافذة" التقت مع الهند في مواقف كثيرة، على المستوى الثقافي والفني على الأقل، حتى بدت وكأنها تبتعد عن باكستان. لكن بعد غزو صدام تغير المزاج الكويتي وتبدلت مواقع الكثير من نوافذه لكن ذلك لم ينعكس على العلاقة مع باكستان فقد ظلت في حدودها العادية. وكانت العلاقة الباكستانية مع الإمارات العربية المتحدة ـ أبو ظبي بصفة خاصة ـ ممتازة رغم علاقتها القوية مع الهند. ويمكن تعليل ذلك بتعاظم المصالح الهندية في دولة الإمارات العربية المتحدة وقاعدتها إمارة دبي. وكانت العلاقة مع عمان جيدة وشهدت تعاوناً في المجالات الأمنية والعسكرية لكنها لم تتسم بالحرارة أو الوصول إلى المفاضلة بينها وبين خصمها ـ الهند. وبقيت العلاقة مع البحرين وقطر في الدائرة الطبيعية مع اختلاف بين الدولتين.
هذه النظرة للوراء تبدو ضرورية لمن يسأل: هل تتعرض العلاقة الباكستانية الخليجية للتغير الجوهري في الوقت الراهن؟. وأين تتجه؟ ومن يدفع باتجاه هذا التغيير؟.
ستظل العلاقة بين باكستان ودول الخليج العربية مهمة للطرفين وتزداد أهميتها للخليجيين في ظل التجاذبات الإقليمية وعدم وضوح مسارات الحلول النهائية في المناطق الملتهبة كالحرب الدائرة في أفغانستان ونتائج ما خلفه غزو العراق والتنازع الذي تقوده إيران في المنطقة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبروز دور جديد متنام للسياسة التركية بعد أن التفتت إلى عمقها الجغرافي وذاكرتها التاريخية. لكن هل للعلاقة الخليجية الباكستانية ما يحصنها ضد "اختراق" المنافسين الإقليميين؟ بكلام أكثر وضوحاً هل العلاقة الباكستانية الخليجية ـ والسعودية بصفة خاصة ـ التي ظلت تشكل عامل قوة للطرفين ستظل في معزل عن مسعى الخصوم والمنافسين لإحداث بعض التغييرات وفتح ثغرات في جدار هذه العلاقة أو على الأقل التشويش عليها؟.
هناك إشارات و قراءات مواقف تومئ إلى محاولة بعض أصحاب المصالح إيجاد "مساحة" بين السعودية وباكستان ـ وتأتي إيران في مقدمة هؤلاء الساعين ـ وهذا شيء طبيعي لكل من يعمل ويريد أن يقوي موقفه. لكن هذه المحاولات ليست جديدة وكانت دائماً تلقى مقاومة من إسلام أباد في ظل ازدهار العلاقة مع الرياض وتوفر أسباب الثقة. فهل ما تزال هذه العوامل متوفرة وقادرة على تجاوز هذا الاختبار؟ نعود إلى السؤال: هل هناك تغير ومن يدفع به؟.
المهتمون بالشأن الباكستاني يرصدون تغيرا في "مزاج" إسلام أباد، بعد مجيء السيد آصف زرداري إلى الحكم ويلحظون تطلعه إلى مد جسور مع عواصم كانت موجودة لكنها لم تكن تحظى بأهمية الرياض. وبكلام أوضح: يرى البعض أن آصف زرداري يدفع بالسياسة الباكستانية في اتجاه دول إقليمية عرفت، تقليديا، بتنافسها مع الرياض. وأن هذا التطلع هو "اجتهاد" ورغبة فردية نابعة من أسباب خاصة، فهل يمكن أن تتبلور هذه الرغبة الشخصية في مشروع يعيد الحسابات لمسيرة طويلة، من العلاقات الممتازة مع الخليج العربي؟ وهل تنجح بعض الدول الإقليمية في التقاط هذه الفرصة لتعديل مسار باكستان التاريخي ضمن خطة طموحة لبناء كتلة سياسية جديدة في المنطقة لم تكن ملامحها واضحة طيلة العقود الماضية؟..
وعلى افتراض أن هذا التوجه الجديد هو ثمرة جهود الدول الإقليمية النشطة فإن المنطق يقول إن باكستان ـ التي تتحكم في مفاصلها السياسية المؤسسة العسكرية ـ لن تتخلى عن إرثها ولن تستطيع أن تقفز على حواجز كثيرة حتى وإن كان ذلك برغبة رئيس لا يجد "روحه" على الضفة الغربية للخليج العربي. لكن هل يترك المقتنعون بأهمية باكستان للخليج العربي هذه الدولة لاختبار قفز الحواجز أم يبادرون إلى إزالة الأسباب التي تؤدي بها إلى تغيير مزاجها وتعديل وجهة بوصلتها؟