واجه الرئيس الأميركي دونالد ترمب أزمة حقيقية ربما تعد الأصعب منذ أن تولى الرئاسة، إذا ما استثنينا قضية التآمر مع روسيا في موضوع التلاعب بنتائج الانتخابات الرئاسية، فخلال ثلاثة أيام إنقضت مع ظهيرة يوم الإثنين الماضي بتمرير مؤقت للميزانية تعطلت أعمال الحكومة الأميركية بفعل عدم تمرير مجلس الشيوخ الأميركي الميزانية الحكومية، والتي أتت على خلفية المقايضة السياسية التي يتزعمها الحزب الديمقراطي من أجل دفع الحزب الجمهوري والرئيس إلى عدم المضي بإلغاء برنامج الحالمين الذي يكفل إقامة شرعية لأكثر من 800 ألف من أبناء المهاجرين.

هذه المقايضة السياسية لا يمكن النظر لها إلا بإعتبارها وسيلة جديدة للأقلية الديمقراطية لدفع الحزب الجمهوري والرئيس إلى حافة المواجهة الشعبية، وقد بدأت الأصوات تعلو في غالبها ضد التيار الموالي للرئيس، باعتباره مستعدا لتعطيل معيشة ملايين من الأميركان في سبيل الإطاحة ببرنامج كفل ويكفل حياة كريمة لمئات الآلاف من الأطفال والمراهقين، الذين لا يعرفون وطنا غير أميركا، وفي بلد بني أساسا على المهاجرين بما فيهم أجداد ترمب ذاته.

وكعادة البيت الأبيض عند حدوث أي فشل إداري أو سياسي بتوجيه اللوم لخصومه الحزبيين، قام الرئيس بتوجيه أصابع الإتهام فور انقضاء التصويت على عدم تمرير الميزانية على الحزب الديمقراطي، رغم أن المجلس يقوده حزبه «الجمهوريون» وهو ما كشفه التصويت، ففي حزب الرئيس ذاته هناك من أصبح يعمل على إفشال مساعيه، في وقت أصبح عدم الرضا عن مواقف الرئيس يتزايد داخل حزبه يوما بعد يوم.

البيت الأبيض يحاول أن يضع الإشكال في قالب مرتبط بالتعطيل المسيس، حيث قالت المتحدث باسم البيت الأبيض سارة ساندرز «الديمقراطيون في مجلس الشيوخ هم المسؤولون عن توقف عمل الحكومة، والليلة هم يضعون السياسة فوق أمننا القومي وعائلات العسكريين والأطفال المعرضين للخطر، وقدرة بلادنا على خدمة جميع الأميركيين»، كما كرر زعيم الأغلبية الجمهورية ميتش ماكونيل ذات الاتهام فور خسارتهم للتصويت مساء الجمعة الماضية، إلا أن زعيم الديمقراطيين كان له موقف آخر مناقض من التعطيل حيث قال «إن هذا الإغلاق سيسمى «إغلاق ترمب»، لأنه لا أحد يستحق اللوم على الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه سوى الرئيس ترمب».

شركة لوكهيد مارتن وهي أكبر مورد للأسلحة للبنتاغون قالت في بيان «إن وقف أنشطة حكومية أميركية قد يؤدي إلى تأجيل مكلف للمواعيد المحددة، وفترات توقف في الإنتاج، وهو ما سيزيد تكاليف البرنامج الكلية، ويعرقل تسليم معدات حيوية لعملائنا»، في حين ذكرت شركة هانتينغتون إنغلس إنداستري، وهي أكبر شركة لتصنيع السفن للبحرية الأميركية، أن أثر أزمة الموازنة الاتحادية على التوظيف وضخ استثمارات ستتضرر نتيجة الضبابية التي يحدثها توقف أعمال الحكومة الاتحادية، في وقت تعمل إدارة ترمب على زيادة مداخيلها من عقود بيع السلاح حول العالم، وهو ما سيكون له تأثير إلى جانب تعثر تلك المشاريع على خطط الشركات المحلية الضخمة في التوظيف والتوسع.

ورغم الإتفاق المؤقت بين الحزبين والذي سمح بتمرير الميزانية لبضع أسابيع تبقى عملية تعطيل أعمال الحكومة أمرا غير جديد، فقد كان آخر تعطيل في عهد الرئيس أوباما عام 2013، إلا أن الملفت في هذه المرة أنه يأتي في وقت يمر الرئيس بأكبر حملة معارضة داخلية ومتجددة ربما يشهدها رئيس منذ الرئيس الأسبق نيكسون، ورغم نجاح الرئيس في جوانب معينة من الاقتصاد وفي ملف الضرائب، كما يروج له أتباعه، إلا أن قضايا الحقوق المدنية والالتزام بأخلاقيات العمل الديمقراطي واحترام الدستور لا زالت هي القضايا التي يحرص عليها الأميركان على المدى البعيد، فهم لا يريدون رئيسا فوق القانون، ولن يفضلوا فتات المال على مبادئ الحرية والكرامة وحق الإنسان، ولكن على الجانب الآخر يرى ترمب وربما من منطلقه المصلحي التجاري أن العقد الاجتماعي بينه وبين شعبه هو في القدر الذي يطعمهم لا بالقدر الذي يحترم فيه حقوقهم كبشر، وهنا يكمن مربط الفرس بين رئيس يراهن على مادية الإنسان وبين شعب متمسك بالحقوق والمبادئ.