بعد انتصار المملكة العربية السعودية في صراعها مع المد القومي والماركسي أوائل التسعينات الهجرية، عاشت بضع سنوات يمكن وصفها بأنها سنوات دون عداوات ظاهرة، فكانت متفرغة لمشروعيها: النهضوي الداخلي، والمبدئي الخارجي، وهو جمع كلمة الأمة، ونشر الفهم الصحيح للإسلام، المبني على تخليصه من الخرافات العالقة به من الأديان الباطنية المشرقية والفلسفات اليونانية الوثنية، كما تفرغت لنشر الإسلام بين من لا يدينون به، والعربية بين الناطقين بغيرها، واشتغلت عدد من مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية بالأعمال الإغاثية والإنسانية في كل بلدان العالم.
وجعلت قضيتها السياسية الكبرى القضيةَ الفلسطينية التي كانت تشغل حيزا كبيراً أيضاً من الجانب التربوي والتعليمي والإعلامي السعودي؛ وهي القضية السياسية الوحيدة التي كانت تُطرح في المجالس وتدور حولها الحوارات؛ كانت أياماً سعيدة حقاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فحتى الفكر لم يكن يتضمن صراعاً، فلم نكن نسمع هذا التفريق الذي يتحدث به الكثير من الإعلاميين اليوم بين الدولة والمؤسسات الدينية، فلسنا نعرف حينها إلا التوافق التام بين الدولة والمؤسسة الدينية، وكل ما في الأمر أن ثَمة إدارات معنية أكثر بالجانب الدعوي والشرعي؛ ومعظم ما كان يتم تداوله من أفكار وآراء وأنظمة لم يكن يخرج عن مقتضى العقد العام بين الدولة والأمة؛ مع أن هذا العقد لم يكن مكتوباً، ولم يكن سوى القليل من المتخصصين يشعرون بالحاجة إلى كتابته؛ وقد تم ذلك فيما بعد على هيئة وثيقة دستورية سميت بالنظام الأساسي للحكم.
لم تدم هذه الفترة في تقديري أكثر من ثمان سنوات يمكن تحديدها ما بين عامي 1392 و1400 أي ما بين انحسار أو سقوط المد القومي وظهور المشروع الخميني الشيعي والفكر الحركي السني.
فأما المشروع الخميني فقد شكل ظهوره بداية السنوات التي لا تصبح فيها فلسطين قضية المسلمين الأولى،فقد شرع الخميني في العمل الجاد على تصدير الثورة الإيرانية، وأعلن في كتابيه كشف الأسرار، والحكومة الإسلامية، العداء الكامل للسنة وللسلفية وللسعودية بشكل أخص؛ ومع ذلك ظل المنخدعون به من قيادات الحركات الإسلامية ومنتسبيها مرتفعي الصوت.
أما الفكر الحركي السني فلم يكن في أصله جديداً على السعودية لأنها تكونت وقامت على إرث أكبر حركة إحيائية إسلامية في العصر الحديث؛ لكن الإشكالية جاءت من كون بعض مفكري حركة الإخوان المسلمين والمفكرين المتأثرين بهم في الدول العربية -وخاصة من انتقل منهم للعيش في السعودية- نقلوا معهم المعطيات نفسها التي كانوا يتعاملون بها مع أنظمة بلادهم ليَنْظُرُوا من خلالها إلى الدولة السعودية؛ فَوَصْفُ الدولِ العربية بأنها دولٌ وظيفية، كَوَّنها الاستعمار، لا تحكم بالشريعة، ينطبق على حكامها قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، كل تلك كانت أوصافاً شائعةً في كتابات المفكرين الإسلاميين الحركيين ومحاضراتهم؛ يَصِمُون بها جميع الدول العربية وأنظمتها؛ ولم يكونوا يستثنون السعودية من هذه الأوصاف، حتى في كتاباتهم التي تتحدث عن واقع العالم الإسلامي قلَّما تجد أي تمييز للسعودية عن سائر الدول الإسلامية سوى بالقول في بعض اللقاءات: إنها أحسن حالاً من بقية الدول أو أقلُ سوءًا.
وهذا الطرح الظالم وغير العلمي كان مؤثرا بشكل مُسيء على بعض الشباب السعودي، وأولى ثماره المُرَّة
ما عرف بحركة احتلال الحرم عام 1400 ثم حركة التكفير التي صاحبت تأسيس تنظيم القاعدة وما تلاها من أحداث وتنظيمات.
فحركة الخميني شكَّلت هماً خارجياً اضطر السعودية إلى الدخول للوقوف في وجه مشروعها الثوري التوسعي داعماً رئيساً للعراق في حرب الثمان سنوات مع إيران؛ وهَمّا داخلياً أيضا حيث دعمت إيرانُ العُصاةَ من شيعة السعودية، كما ثبت أنها داعم قوي للتكفيريين من أبناء أهل السنة بدءًا بالقاعدة وانتهاء بداعش.
فإيران الخمينية عدو بغيض للسعودية؛ ولاشك أن إيران الشاهانية لم تكن صديقاً، إلا أن الشاه كان يرى السعودية منافساً على المصالح الاقتصادية والمكانة السياسية، أما نظام الخميني فكان وما يزال يستهدف وجود السعودية ويسعى لإنهائه.
ومع كل هذا الوضوح في الإستراتيجية الإيرانية ضد السعودية إلا أن أكبر الحركات السياسية الإسلامية السنية وأقدمها وهي حركة الإخوان ظلت على وئامها معها، ولم تعترض عليها في جرائم ارتكبها النظام الإيراني، ومنها إعدام عشرات الآلاف من المواطنين الإيرانيين في السجون، واغتيال الناشطين الإيرانيين، ومنهم محسوبون على الإخوان المسلمين، واضطهاد العرب الأحوازيين، والسنة التركمان والبلوش وسكان بر فارس؛ وفي هذه الأيام الأخيرة لم يقفوا أدنى موقف تأييداً لثورة الشارع الإيراني ضد الحكم الصفوي، ولم يعترضوا على أي اعتقال يحصل هذه الأيام ضد المتظاهرين في جميع المدن الإيرانية؛ وهذه الحقائق تعني بوضوح أن تأييد الإخوان للخميني بادئ الأمر، ثم وقوفهم مع النظام البعثي العراقي ضد السعودية سنة 1411هـ لم يكن نتاج خطأ في فهم الواقع، أو زلل في تقدير المواقف، أو حماس غير منضبط؛ بل نتاج فكر إستراتيجي لدى جماعة الإخوان يجعل السعودية مستهدفة، ويحتم الوقوف ضدها مع أي خصم لها؛ سواء أكان يرفع الشعار الديني كالخميني، أو يرفع الشعار العلماني كصدام حسين.
وتَسَرُّبُ الفكر الإخواني إلى بعض النشء السلفي داخل السعودية نتيجة عوامل عديدة لم يستطع تقريبهم من الفكر الخميني الصفوي، لمتانة التحصين العقدي السلفي؛ لكنه أثَّر عليهم في جانب النظر إلى الدولة، حيث أصبحت الريبة هي الأصل في نظرتهم إليها.
كل هذه المشكلات تعتبر طبيعية ويمكن تجاوزها بسهولة لولا أنها وافقت رغبة عالمية لإنهاء السعودية التي اعتبَرها غيرَ قابلة للدخول في عالم العولمة والقيم المشتركة كلٌ من: شاريل بينارد في تقريرها «الإسلام المدني الديمقراطي، الشركاء والموارد والإستراتيجيات» وفرانسيس فوكوياما صاحب كتاب «نهاية التاريخ» فالسعودية بوهابيتها [هكذا يعبرون] دولة مُشِعَّة للقيم التي ليست فقط لا يمكنها الذوبان في القيم الأميركية أو الأوربية؛ بل هي خطر على هذه القيم في داخل العالم الإسلامي الذي يمكن أن يصبح كله [وهابيا] إن لم يتم قمع الأنشطة السعودية؛ وفي جميع الدول غير الإسلامية التي ينتشر فيها الإسلام، ومنها أوروبا والأميركتان.
فلم يكن تمكين إيران من نشر نشاطها التشييعي نتاج سياسة خمينية خالصة، بل نتاج توافق أميركي إيراني لكبح الانتشار السلفي؛ وكان اتهامُ الهيئات الإغاثية والدعوية السعودية ومنعها من العمل، ثم إحلال المؤسسات الإيرانية مكانها أحدَ أدواته.
وامتثالاً لحقيقة يعرفها فقهاء التاريخ فإن إسقاط الأفكار والمُثُل والقيم التي تتكون عليها الدول هو إحدى مراحل إسقاطها جاء الدعم الخارجي للإعلام الموجه ضد تلك المجموعة من الأفكار والمبادئ والقيم التي تكونت على أساسها المملكة العربية السعودية تحت أغطية متعددة، منها: الحرية والليبرالية والعلمانية وتجديد الخطاب الديني وعصرنة الدين؛ وهي أغطية لتغيير هوية المجتمع تمهيداً لتسييد القيم الأميركية والفهم الأميركي للكون والحياة؛ وإن كان الكثير من السعوديين المتورطين بالمشاركة في هذا الاستهداف للقيم والأفكار، يجهلون وينكرون أن يكونوا أدواتٍ في هذا المشروع لنشر القيم الفاسدة وإسقاط الدولة التي جعلت لهم كيانا بعد أن لم يكونوا.
من المشكلات المؤلمة: أن بعض الدول الإسلامية التي يعول عليها في التحالف مع السعودية تريد أن تتحالف أيضا مع إيران، وتريد من السعودية أن تقبلها كما هي حليفة للطرفين، وهذا ما لا يمكن؛ ودول إسلامية أخرى تريد أن تنتظر حتى يتبين لها من الأقوى، إيران أم السعودية، فتتحالف معه؛ ودول إسلامية جادة في التحالف
ضد إيران، لكنها تحمل سمعة سياسية وحقوقية سيئة جداً، فتتحمل السعودية جزءًا من وزر هذه السمعة وتبعاتها.