في صحيح مسلم عن المستورد القرشي أنه كان عند عمرو بن العاص فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو أبْصِرْ ما تقول! قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو بن العاص: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك.

هكذا قال الصحابي الجليل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه، وهو بهذا ليس في مجال الثناء عليهم، فهو يعلم شركهم وفساد عقيدتهم النصرانية، ومن ذلك ما ذكره الله عنهم بقوله (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه)، وإنما أراد أن يُفَسِّر سبب ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام من كثرتهم عند قيام الساعة، لاسيما وقد خَبرهم وعرفهم، بل وحاربهم وهزمهم، ولكن هذا لا يعني عدم الاعتراف بما عندهم من صفات إيجابية، فالحق يُقبل، حتى لو قاله الشيطان، كما في حديث: (صدقك وهو كذوب)، يُقبل الحق ويُشاد به لأنه حق، لا لأن فلانا قاله أو فعله، والباطل يُرَد مهما كان مصدره، ولا يُمَرر الباطل ويُسوَّغ لأن فلانا الفاضل قاله أو فعله، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها، وأهل الكتاب كغيرهم ليسوا سواء، منهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما، ومن أبرز ما لاحظه عمرو بن العاص في الروم ما هو موضوع المقال، وهو قوله (إنهم لأحلم الناس عند فتنة)، والحلم لا يأتي إلا بخير، في كل وقت، لاسيما عند الفتن، التي تطيش فيها العقول، ويفقد فيها كثير من الناس الاتزان، فهؤلاء القوم الذين أشار إليهم الصحابي الجليل عمرو بن العاص، عند الفتن لا تذهب عقولهم، ولا تطيش أفهامهم، ولا يستعجلون بردات الفعل الكلامية أو الفعلية غير المحسوبة، ومع هذا فهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، وربما هذا من أسباب تقدمهم المادي، وسيادتهم على أعظم دول العالم المؤثرة.

ومن تأمل الكتاب والسنة رأى فيهما أسباب التقدم الديني والدنيوي، وما من صفة إيجابية في الروم أو غيرهم إلا وقد دل عليها ديننا، وأرشد إليها، فالحلم والأناة والحكمة دل عليها الكتاب والسنة، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في شأنه كله، لاسيما في زمن الفتن، وفي صحيح البخاري ـ رحمه الله ـ كتاب خاص بالفتن يضم عدة أبواب، في كل باب مجموعة من الأحاديث، وهكذا في كتب السنة الأخرى.

ولا يليق بمسلمٍ منَّ الله عليه بمعرفة الكتاب والسنة، وما جاء فيهما من التوجيه في أمر الفتن، أن يكون نصارى الروم ونحوهم أفهم منه في أمر الفتن، وإن تعجب - أخي القارئ - فعجبٌ طيش (بعض) المغردين والكتاب والمتحدثين ونحوهم، الذين يسيئون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكثيرٌ من رسائلهم وتغريداتهم وحواراتهم الفضائية، تتضمن عبارات متشنِّجة، وعنتريات متوهمة، وإثارات مهيِّجة، تضر الناس ولا تنفعهم، ثم هم مع ذلك يزعمون أنهم يصدعون بالحق، ولا يخشون في الله لومة لائم، وهو زعم باطل، ومعاذ الله أن يكون التهييج والإثارة حقاً.

ومن أراد الخير والحق، فعليه بالتؤدة والطمأنينة وفقه المآلات، لاسيما إذا كان يتحدث عن شأن عام، فلا يُقدِّم الرغبة في كسب الجمهور والأتباع، على محكمات الشريعة، واستقرار الوطن وأمنه، وفي زمن الفتن يكون الحلم هو الصواب، ومن كان ذا علم وحلم وفقه، فإنه إن تكلم تكلم عن علم، وإن سكت كان سكوته عن علمٍ وفِقهٍ للمصالح، لا يستعجل بإشاعة ما يُقال، بل يتبصر قبل الكلام، فينظر هل في الكلام مصلحة للبلاد والعباد في دينهم ودنياهم، فيُقدِم، أم لا، فيُحْجم؟ فما كل ما يُقال صحيح، وما كل ما ثبتت صحته حسن نشره، وما حسن نشره، قد لا يحسن نشره لكل أحد، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من قول معاذ رضي الله عنه (أفلا أبشر الناس يا رسول الله؟ فقال: لا تبشِّرهم فيتكلوا). قال أهل العلم: في الحديث من الفوائد: جواز كتم العلم عن بعض الناس للمصلحة، فما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، فإذا كان هذا في العلم الشرعي الثابت، فما بالك بأمور سياسية متغيرة؟ وقد يكون الإنسان لم يُحط بها من كل الوجوه، وقد يكون علم شيئا منها، وغابت عنه أشياء، ثم هو مع هذا ربما لم يُفكِّر في مآلات ما يقول، لكنها العجلة والاندفاع غير المنضبط وما تهوى الأنفس.

وأما العقلاء فإنهم يضبطون أقوالهم وأفعالهم ويزنونها بميزان العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام، واضعين نصب أعينهم تحقيق المصالح العظمى لوطنهم المملكة العربية السعودية، فيكون كلامهم بعلم وحلم ورفق، وفقهٍ للمآلات.