كم كان المشهد مؤثرا، حين وقف أفراد عائلة سعودية في الدور واحدا إثر واحد وهم يودعون «الشغالة» في المطار، وقد جلست على كرسي متحرك، بعد أن قضّت معهم في منزلهم ثلاثة عقود أو تزيد عاشتها بينهم، وهي تقوم على خدمتهم كما جاء في التعليق على المقطع الذي وصلني، أسهمت خلالها في العناية بوالدة الأولاد وتربية الأبناء، حتى شاب مفرقها، وأحنى الدهر ظهرها، فباتت هي اليوم أحوج ما تكون إلى من يقوم على خدمتها، في المشهد كما قرأته أنا، تعطلت لغة الكلام، وحضرت الدموع، وكانت المشاعر الإنسانية الصادقة تجليها تلك الأحضان الدافئة بين أبناء الأسرة والشغالة، التي أرى وكأن شمس الدين الكوفي قد عبّر عن لسان حالها وهو يقول «عندي لأجل فراقكم آلام.. فإلام أعذل فيكم وأُلام/ والله ما اخترت الفراق وإنما.. حكمت عليّ بذلك الأيام»، لقد فاضت أعين الجميع بدفقات من الدموع الذي أسالها وجع الفراق بعد اجتماع، ليكون المشهد خيرَ مثالٍ، وأعظم مقال، على أن كل لقاء سيعقبه فراق، مثلما كل فراق سيعقبه لقاء، وأن هذه الدنيا ليست سوى محطات، هنا من يركب، وهناك من يودّع الركب، وإن كانت هذه سنة الحياة؛ إلا أن هذا الموقف يحكي الوجع الإنساني الذي نعيشه كل يوم، مرة مع فرح بلقاء، ومرة حين نجزع بوداع، ولكم أن تتخيلوا دموع وجع الفراق التي كانت اللغة الحاضرة بقوة بين أبناء العائلة السعودية والشغالة؛ أنها ستتحول بعد سويعات إلى دموع فرحة واشتياق للقاء من جديد بين الشغالة وذويها في بلدها! يا سبحان الله! كيف أن هذه الدنيا ممزوجة بالأفراح والأتراح معا، فلم الجزع منها وعليها؟ ولم كل هذا العنف الذي يصدمنا كل يوم بخبر نصحو عليه أو ننام؟! لست أدري!

لكن يا ترى لماذا كان المشهد مؤثرا باكيا لكل من شاهد المقطع؟ ولماذا حضر جميع أفراد العائلة في وداع الشغالة؟ ولماذا بكى الجميع في تلك اللحظات الصعبة المُوَدّع والمُودِّعُون؟ أظن السر في كل هذه الصور، وإجابة عن كل تلك الأسئلة، يكمن في قضية واحدة «حسن التعامل والخلق»، فلو لم تكن تلك الأسرة تحسن معاملة الشغالة، وتعاملها على أنها إنسانة مثلهم، لما مكثت معهم كل تلك السنوات الطوال التي ربما تكون نصف عمرها، عاشتها بينهم حتى ودعتهم من على كرسيها المتحرك، وبكت على فراقهم، رغم أنها تعلم أنها ستعود إلى حضن أسرتها في بلدها، ولولا حسن عمل تلك الشغالة وصدقها ونزاهتها، لما جاء كل أفراد الأسرة في وداعها، وودعوها وداع الأبناء لأمهم، وعاملوها باحترام! تأملوا المشهد جيدا، وتوقفوا عنده كما وقفت، فهو ليس وداع أسرة مع شغالتهم فحسب؛ إنما هو أكبر من كل ذلك، فقد حوى الكثير من المشاعر الإنسانية والدروس والعبر التي استوقفتني، ولا أخجل أن أقول لقد أدمع المشهد عيني، وأتمنى أن يكون كثيرون مثلي وقفوا عند تلك المعاني، لنعلم أن حسن التعامل، وحسن الخلق، وحسن الأداء والعمل، والتدبر في محطات الحياة، ونبل المشاعر وصدقها؛ كلها عناوين كبيرة لدروس يجب أن نتقنها ليوم الامتحان الكبير، الامتحان الحقيقي في الآخرة، ولعل أحد تلك الدروس قد علمناه المعلم الأول محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم بقوله «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، وليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق»، وحسن التعامل من حسن الخلق، وفي الختام لقد ترددت كثيرا في أن أكتب كلمة «العاملة أو المدبرة المنزلية» بدلا من لفظ «الشغالة» الذي لا يعد عيبا، فهو وصف لمهنة وعمل شريف، إلا أني وجدت الكلمة المعبرة السائدة والمعروفة عند الناس للعاملات المنزليات هي «الشغالة»، وقد أردت أن تكون رسالتي واضحة ومباشرة، فلعل الإحسان إلى العمال والعاملات يكون مصدره من تعاليم ديننا التي تحض على الرفق والرحمة وحسن العشرة والإحسان وتفقد الأحوال، فلم يتركوا بلادهم للترفيه، إنما أتوا بحثا عن لقمة العيش الحلال، وميزان التقوى عند الله ليس المنصب ولا الجاه ولا المال ولا الجمال ولا اللون، إنما ميزان التقوى عنده سبحانه قرره في قوله «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، طيب الله أعماركم بالتقوى.