يقولون هو تاليس من القرن السادس قبل الميلاد، وهو يوناني، ويحدثنا الفيلسوف الوجودي ياسبرز عن الحقبة الروحية في القرن السادس قبل الميلاد، التي ترافقت بتدفق الفلسفة من اليونان وإشعاع الروح في زرادشت وبوذا وكونفوشيوس من آسيا، فقد خرج الثلاثة في وقت متقارب في هذا القرن.
وكانت الثقافة اليونانية ممتدة حتى جنوب إيطاليا حيث لمع زينون، وهما اثنان الإيلي والآخر صاحب المعضلة الفلسفية في الحركة بأن السهم لا يطير، وأن أخيل لو ركض خلف السلحفاة ما سبقها قط!
واستعرض هذه المعضلة إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني) وأن شبه الحل جاء من الرياضيات الحديثة.
وبين تاليس وأرسطو جيل كامل من فلاسفة اليونان، الذين بحثوا في كل شيء، بمن فيهم ديموقريطس الذي أوصله خياله إلى تصور بناء الذرة، وهو ما وصلت إليه الفيزياء الحديثة مع السلاح النووي، ولكن الأمر تفرع فوصل إلى الأوتار الفائقة والأبعاد الأحد عشر.
هذه هي طبيعة الفلسفة الشمولية والموسوعية وعدم الخوف من الخوض في كل شيء، بما فيها الإله والتاريخ والنبوات وطبيعة الأشياء ومعنى الكون، ومن أين أتينا؟ وإلى أين نذهب؟ وهل هناك حياة أخرى؟ وما هي طبيعة القوانين التي تحكم الوجود؟ وما هي الفضيلة؟ وهل هناك حدود للمعرفة؟ وما هي الوحدات الأولية التي نتكون نحن منها؟ ويتكون منها الكون؟ وإلى أين يمضي الكون؟
والسؤال عن بزوغ شمس الفلسفة ثلاثة وليس واحدا.
هل هناك فلسفة غير الفلسفة اليونانية في فجر الفكر الإنساني؟ ولماذا بالذات نبعت الفلسفة من أرض اليونان؟ وهل كانت الفلسفة التي معناها حب الحقيقة والحكمة المثالية مصدرا للتشويش أم داعي طمأنينة وإذعان؟
حسب كتاب الطرابيشي (نقد النقد) في رده على الجابري المغربي، وهو يناقش اللوجوس LOGOS أي العقل والمعرفة، بأن الفلسفة هي البحث في الفكر وليس مشتقات الفكر؟ أي هي الفاصل بين المعلومات ونظام المعلومات وآليات المنطق وكيف يعمل الذهن الإنساني؟ وأنا شخصيا أذكر صديقي الكردي الوسيم الذي نجح معي في البكالوريا بعد أن اجتمعت به في جامعة دمشق قلت له ما هو الفرع الذي تدرس فيه؟ قال الفلسفة. قلت له أطلعني على بعض مما تتعلمون فأحضر لي كتبا يشتغل بها. وحين بدأ يكرر بعضا مما يتعلم أدركت أن الأمر تلقينات وليس عمقا ورسوخا وفهما.
وأعترف أيضا أن الفيلسوف الفعلي الذي اجتمعت به فكان نموذجا عن كيف يعمل العقل هو جودت سعيد وتوليده الدائم للأفكار. فهذا الرجل قد تعب على نفسه كثيرا وقرأ أطنانا من الكتب، بصبر ودأب ومنهجية يغبط عليها! ومما روى لي من عمله الفكري أنه كان في مكتبة القاهرة حينما كان يدرس مادة اللغة العربية في الأزهر في الخمسينات من القرن الفائت، لم يكن يعطي المادة الكثير من الجهد والوقت إلا ما يحتاجه كي لا يرسب ولا يكسل، وباقي وقته كله كان منصبا على التحصيل المعرفي الموسوعي؛ فكان ينتقل من كتاب لكتاب، وهناك تعرف على مدرسة مالك بن نبي، ومنها دخل إلى فناء محمد إقبال وجلال الدين الرومي والفكر الغربي مثل المؤرخ توينبي وهـ ـ ج ـ ويلز صاحب الأفكار العجيبة من حرب العوالم وآلة الزمان وكتابه الموسوعي عن معالم تاريخ الإنسانية.
يقول الطرابيشي: إن الفلسفة أي اللوجوس تحتاج اللغة وهذه بدأت من الشرق الأوسط وانتقلت إلى اليونان؛ ولذا فهو يعتبر أن الفلسفة لم تبدأ من اليونان، بل سبقها أٌقوام آخرون من الهند أو الشرق الأوسط وتطور اللغة هو الذي أتاح أن تخلد الحكمة اليونانية وتنسى الثقافات الأخرى.
وهذا الكلام معقول لأنه لا يعقل أن ينمو العقل الإنساني في مكان دون آخر على الإطلاق، ونحن نعرف من مجرى التاريخ أن حضارات عديدة انبثقت في أماكن شتى أحصاها المؤرخ البريطاني توينبي في حدود 32 حضارة نشأت من حوالي 600 مجتمع بدائي.
مع هذا فمن يطلع على الفلسفة اليونانية يذهل، ويشير البدوي الفيلسوف المصري وهو يخط ذكرياته أن العقل الإسلامي تفتَّح حين اتصل بالثقافة اليونانية، وانفلق حين انغلق!
ونحن نعرف هذا أيضا من ابن رشد، ويشير محمد إقبال إلى خطأ جوهري مارسته الحضارة الإسلامية في أنها استغرقت الفكر الإنساني اليوناني ولم تتنبه إلى طبيعة الفروق الثقافية.
حاليا بدأت تباشير النهوض العقلي في العالم العربي من خلال اتصاله بالفكر الغربي، ويعيش نفس هذه المخاضة التي عاشها العقل المسلم في فترة الازدهار العقلي العباسي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.