تشير تقديرات تقرير حديث صادر عن معهد ماكينزي العالمي إلى أن التقدم في التشغيل الآلي سوف يتطلب اعتمادا على مستوى التنمية في أي بلد، أن يغير 3% إلى 14% من العمال في مختلف أنحاء العالَم مهنهم، أو أن يعملوا على ترقية مهاراتهم بحلول عام 2030. وبالفعل، اختفى نحو 10% من كل الوظائف في أوروبا منذ عام 1990 خلال الموجة الأولى من التغير التكنولوجي الذي طرأ على الوظائف الروتينية. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، الذي يؤثر على نطاق أوسع من المهام، فربما تتضاعف هذه الحصة في السنوات المقبلة.
ولأن الفوائد الاقتصادية والاجتماعية بعيدة المدى المترتبة على ظهور التكنولوجيات الجديدة لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام الذي تلقاه الخسائر في الوظائف، فمن الأهمية بمكان أن ننتبه إلى أن تكنولوجيات الأتمتة بدأت تُظهِر بالفعل القدرة على تحسين حياة البشر. ففي نوفمبر الماضي، أظهر باحثون من جامعة ستانفورد أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتفوق في الأداء على الخبراء المتخصصين في الأشعة في اكتشاف الالتهاب الرئوي بفحص الأشعة السينية للرئة.
في عصر يتسم بتعطل نمو الإنتاجية وانحدار عدد السكان في سن العمل في الصين وألمانيا وأماكن أخرى، تستطيع الأتمتة أن توفر الدَفعة الاقتصادية التي نحن في أَمَس الحاجة إليها. فزيادة الإنتاجية تعني النمو الاقتصادي الأسرع، والمزيد من الإنفاق الاستهلاكي، وزيادة الطلب على العمالة، وبالتالي خلق المزيد من فرص العمل.
ففي أوائل القرن التاسع عشر، ركدت الأجور طوال ما يقرب من خمسين عاما قبل أن تعود إلى الارتفاع مرة أخرى. وربما كان ذلك الوضع متطرفا. ولكن بالنسبة للعمال من ذوي المهارات المتدنية، ربما يكون الانتقال الجاري موجِعا بنفس القدر. ومع تنامي المخاوف من اتساع فجوة التفاوت بالفعل، تحتاج الحكومات إلى إعادة النظر في السياسات التي تستهدف توفير الدخل ودعم الانتقال الوظيفي للعمال المزاحين.
بالنظر إلى المستقبل، ينبغي لصناع السياسات وأرباب الأعمال أن يضعوا نصب أعينهم خمس حتميات.
الحتمية الأولى تتمثل في تبني الذكاء الاصطناعي والأتمتة دون تردد. وحتى لو كان من الممكن إبطاء وتيرة التغيير، فإن الاستسلام لهذا الإغراء خطأ كبير. فبسبب تأثيرات المنافسة العالمية، قد تُفضي عرقلة الانتشار التكنولوجي في أحد المجالات ببساطة إلى تثبيط الازدهار الإجمالي. والواقع أن تقديراتنا الأخيرة تشير إلى أن اقتصادات أوروبا الشمالية قد تخسر 0.5 من النقطة المئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي إذا لم تواكب الوتيرة التي تتبنى بها جاراتها تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.
الحتمية الثانية في تزويد العمال بالمهارات المناسبة. كثيرا ما تتغافل المناقشات الدائرة حول مستقبل العمل السؤال حول كيفية تطور سوق العمل وتحسن أو تفاقم حالة عدم توافق المهارات التي أصبحت حادة بالفعل في الدول المتقدمة. فقد وجدت أبحاث أجرتها أخيرا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ما يقرب من ثلث العمال في الاقتصادات المتقدمة، إما غير مُستَغَلين بشكل كامل أو غير قادرين على الاضطلاع بواجباتهم الحالية.
الحتمية الثالثة في التركيز على تعزيز فرص العمل. فخلافا للروبوتات الصناعية الأقدم، تستطيع التكنولوجيات الأحدث أن تتفاعل بأمان وكفاءة مع البشر، الذين يحتاجون أحيانا إلى تدريبها، وسوف يضطرون على نحو متزايد إلى العمل بسلاسة مع خوارزميات وآلات.
الحتمية الرابعة، سوف تحتاج الشركات إلى الإبداع والاستفادة من فرص السوق الجديدة بنفس الوتيرة التي يجري بها إحلال المهام البشرية. على سبيل المثال، خلال الموجة الأولى من الروبوتات، قامت دول مثل ألمانيا والسويد بإزاحة الوظائف في قطاع السيارات من خلال تبني روبوتات «التصميم المعزز بالكمبيوتر»؛ ولكنها عملت في نفس الوقت على إعادة وظائف أخرى من آسيا، حتى إنها عملت على خلق وظائف طرفية جديدة في مجال الإلكترونيات.
وأخيرا، يتعين علينا أن نستثمر مكاسب الإنتاجية التي توفرها تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في أكبر عدد ممكن من القطاعات الاقتصادية. وتُعَد مثل هذه الاستثمارات السبب الرئيس وراء الفوائد التي عادت على تشغيل العمالة نتيجة للتغيرات التكنولوجية في الماضي. ولكن في غياب نظام بيئي محلي قوي لإدارة الذكاء الاصطناعي، فقد لا يُعاد استثمار مكاسب الإنتاجية اليوم على النحو الذي يعمل على تغذية الإنفاق وتعزيز الطلب على العمالة. ويتعين على صناع السياسات أن يسارعوا إلى ضمان توفير حوافز قوية لإعادة الاستثمار.
كريستوفر بيساريدس* جاك بوغين*
*أستاذ الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد
*مدير معهد ماكينزي العالمي
(بروجكت سندكيت)