إن مفاتيح العصر الجديدة هي أشبه ما تكون بحلوى الأعياد وألعابها النارية، فقد تبدو براقة وزاهية بألوانها وما تجلبه من سعادة في التواصل واختزال المسافات والزمن، ولكنها قد تكون سببا في تراجع العلاقات الطبيعية المباشرة بين الناس نحو عالم يسبح في فضاء خيالي افتراضي لا نعلم له حدوداً أو هوية، حينما دخل التلفاز بيوتنا هجرنا وبالتدريج القراءة، وعندما اقتنينا السيارات أصبحنا نتقاعس كثيرا عن المشي، وحينما صار لدينا موبايل وكومبيوتر نسينا كيف نكتب الرسائل وكيف نتهجى الحروف والحركات، وحين دخل واتساب وفيسبوك وغيرهما، اخترعنا لغة هجينة مليئة بالاختصارات والرموز، ونسينا كيف نخط الكلمات، وضاعت معها دروس الخط والإملاء، ونسينا كثيرا واجب الزيارات، واكتفينا بالنقر والنظر في صندوق العجائب الذي بات رفيق أيادينا.

وسائل التواصل الحديثة بكل أشكالها وما باتت تمثله في حياة الناس من أهمية قصوى جعلتها من الضرورات الحياتية لا بل والمعيشية عند مختلف الفئات العمرية، وباتت ساحة لتداول وانتشار الأفكار بكل ما تحمله من حقيقة وزيف على حد سواء.

نتساءل أحيانا هل لحرية الفكر والرأي والتعبير حدود أو محددات قيمية؟، أم أنها يجب أن تسبح في فضاء مفتوح ومتاح؟ هل هناك مؤشر ما أو مقياس أو حدود لها ترسم ملامحها؟ وكيف يمكن قياس ذلك، وبأي محددات قيمية وسلوكية وأخلاقية تتمتع باعتبارية مقبولة لدى المجتمع، بالرغم من التباين في الطبيعة الظرفية للمجتمعات على أرض الواقع.

الخطر الحقيقي لا ينحصر فيما يتداوله البعض من أفكار متطرفة تخدم صناعة الإرهاب، وتهدد الأمن والأمان، فهذا أمر لا خلاف على حتمية رصده والقضاء عليه، ولكن الخطر يكمن فيما تعانيه المجتمعات وفي كل مكان حول العالم من عملية شطف فكري واسعة تضخ كماً هائلاً من الأفكار والرؤى لا يمكن حصر أهدافها، غايتها الفرد والمجتمع، بُغية تغيير المفاهيم، مما ينتج عنه تغيير في الإدراك والوعي والفهم، وهي عملية منظمة تقف وراءها جيوش إلكترونية تعوم في فضاء افتراضي غير مرئي وغير محدود، تعتمد على التزييف والتزويق والتجمُّل والاختصار والاختزال، موادها الفكرة والرأي والكلمة والصورة والمشهد، أهدافها تأخذ شكلاً وطابعاً متغيراً ومتجدداً، ويتم ترسيخها وتأطيرها بعناية، لتكون أكثر تأثيراً على متعاطيها وبمختلف شرائحهم الاجتماعية، وسيلتها وسائل التواصل الحديثة، والتي هي «لغة العصر الجديدة».

إن الحرية الفكرية تشمل العديد من المجالات بما في ذلك مسائل الحرية الأكاديمية، وحرية استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة دون رقابة، وهذه في حد ذاتها سلاح ذو حدين حين يُساء استخدامها وبفوضوية وكما هو حاصل اليوم.

بعد أحداث 11 سبتمبر تم تصديق «قانون باتريوت»، الذي منح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة تمكنها من القيام بأعمال تنصت ومراقبة وتفتيش دون اللجوء إلى التسلسل القضائي الذي كان متبعا من قبل، كرد فعل هدفه حماية المجتمع من تداعيات الإرهاب الكارثية، وبعيدا عن نظرية المؤامرة، فإنها تبقى سلاحا يستبيح خصوصية المواطنين لأجل حماية الأرواح والممتلكات.

 بالنسبة لحدود حرية الرأي والتعبير فإنه يعتبر من القضايا المتشابكة والشائكة والحساسة، إذ إن الحدود التي ترسمها الدول أو المنظمات المانحة لهذه الحرية قد تتغير وفقا للظروف الأمنية، والنسبة السكانية للأعراق والطوائف والديانات المختلفة التي تعيش ضمن الدولة أو المجموعة، والتي هي من العوامل المؤثرة فيها بشكل مباشر.

 تمنع القوانين في كثير من الدول في أوروبا وكندا، أي كتابة أو حديث علني يؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية، وفي أميركا وضعت المحكمة العليا مقياسا لما يمكن اعتباره إساءة أو خرقا لحدود الحرية سمي باختبار ميلر1973، ويعتمد المقياس على 3 مبادئ رئيسية.

 الأول يعتمد على قبول غالبية المجتمع لذلك الرأي كأساس.

 والثاني ألا يتعارض الرأي مع القوانين الجنائية.

والثالث أن يكون الرأي والتعبير بأسلوب أدبي وفني جاد وهادف.

إن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناقها دون مضايقة، وفى تلقي ونقل المعلومات والأفكار من خلال أي وسيلة ودونما اعتبار للحدود، وهو ما سبب هذا الخلط وهذه الفوضى والتي أصبحت تسم العصر بوسم غير حضاري بسبب عدم وجود محددات قيمية مجتمعية، وبسبب تنامي تأثير الأفكار والعادات الغربية والغريبة على عقول الكثيرين، لتصبح ثقافة موازية وهجينة يغلب عليها الوهم والخيال الافتراضي، ولا تنتمي إلى واقع معاش، وتطير فوق سحبها الإشاعة لتصير حقيقة تزيف وعي الملايين.

إن المحددات القيمية لحرية الرأي والتعبير باتت مرنة ومطاطة في كثير من بلادنا، وأصبحت بلا سقف لتسبح في فضاء ملوث مليء بالدخان، وصارت إلى فوضى أضرت بالمجتمع لتفرض عليه رؤية وثقافة وفكرا مضطربا وموزَعا، مما خلق حالة من تردي الوعي، أدت وبالضرورة إلى تغلغل أفكار هدّامة لتفرض واقعا جديدا، وهذا واحد من الأسباب التي ساعدت على انتشار التطرف والإرهاب، مما أدى إلى ظهور الفتن التي تقوم على تفتيت وتقسيم المجتمع، شبيهة بقوانين «الأبارتاد»، والتي ظهرت في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، والتي قسمت أفراد المجتمع إلى مجموعات عرقية على أساس القبيلة والطائفة واللون، لتسود عليهم.

الثروة الحقيقية والمتجددة دوما هي الإنسان من خلال الاستثمار فيه وبه وعليه، والعمل الواعي والدؤوب على الارتقاء بمداركه، ليكون قادرا على التمييز والفهم، بأن حرية الرأي والفكر والتعبير حدودها وسقفها، هو كل قول أو فعل يؤدي إلى الإساءة إلى الآخر وإيذاء المجتمع، وهي حرب طويلة بأدوات وأسلحة غير متكافئة، وهو تحد كبير في محاولة لإرجاعنا إلى القراءة ومن جديد، إنه محو للأمية بمفهومها الجديد والذي لا يقوم على تعلم الأبجدية والحروف، ولكنه أخطر وأصعب منها بكثير، إن العودة إلى قمينا الإنسانية بكل محدداتها الأخلاقية هي التحدي الأكبر الذي تواجهه مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهي تبدأ من الفرد.

العالم اليوم بحاجة إلى رؤية جديدة وعصرية، للكثير من المشاكل التي أفرزتها الحضارة والمدنية والتقدم العلمي، ومنها حرية الرأي والتعبير، وفك الاشتباك الحاصل بين نصوص الدساتير حول العالم وبين قوانين العقوبات المنظمة والمفسرة لها، والتي لابد من تكييفها وصياغتها ومن جديد بشكل أكثر وضوحا وشمولية، لكي يعلم الناس حدود حرياتهم، والتي باتت لا سقف لها، ولابد للمنظمات الدولية من وضع رؤية عصرية حضارية تبعا لهذه المتغيرات، فليس من المعقول العمل بنصوص دولية اتفق عليها العالم منذ عصور طويلة لتعالج مشاكل هذا العصر.

الازدواجية والكيل بمكيالين التي رافقت كيفية تعامل منظمات حقوق الإنسان، وتباين مواقفها في كثير من بلدان العالم حول حرية الرأي والتعبير، باتت مدعاة للسخرية، وأفرغت تلكم المنظمات من رسالتها ومضمونها الإنساني، وخسرت كثيراً من مصداقيتها حول العالم، وبات البعض منها كشرطي فاسد، ولعل أقرب مثال ما حدث ومازال يحدث في اليمن.

اليوم نحن أمام تحد ومسؤولية كبيرة للحفاظ على هويتنا وخصوصيتنا العربية والإسلامية، والتمسك بقيم العدالة والحرية والسلام والتعايش فيها، كل دول أوروبا المنضوية تحت مظلة الاتحاد الأوروبي تعتز وتحافظ على خصوصياتها وخصائصها وعاداتها وتقاليدها وقيمها وتنوع لغاتها وثقافاتها، رغم كل محاولات الحداثة التي فرضتها وسائل العصر الحديث.

 نحن أمة واحد، يجمعنا كثير من المشتركات، وهي أدعى بنا إلى المحافظة عليها، فالقيم الإنسانية ثابتة وخالدة، لا تتعارض إطلاقا مع مفهوم الحداثة وحركة التجديد والتنوع الحضاري عبر التاريخ.

لا يدرك كثير من الناس أن استخدام وسائل التواصل وعلى اختلاف أشكالها هي إقرار ضمني من قبل المتعاطي معها، بالتنازل عن حقه في الخصوصية، فهي في مجملها اختراعات غازية، وجدت لأجل معرفة أدق التفاصيل الحياتية للإنسان، من خلال ما ينشره فيها من تفاصيل حياته وعلاقاته وأفكاره، وما يروج له ويعيد نشره دون وعي وتمحيص، وتراهن على قلة وعيه بمخاطرها، هذا الكم الهائل واللامحدود من المعلومات يدخل في عملية فلترة كبيرة لمعرفة التطور الحاصل في الفكر والثقافة والسلوك، وهو يسهم في رسم الوسائل لغزونا وتفتيتنا، إنه الاستعمار الجديد بأثواب وألوان براقة تخطف الأبصار، لقد أصبح الفرد مكشوفا أكثر من خلال هذه الوسائل، إنها وسائل قياس حقيقية لأمزجة وأحوال وأفكار الناس حول العالم، إنها شرطي العالم الجديد.