انتفاضة الشتاء في إيران، وكما سماها واحد من الأدباء والكتاب المُلهَمين في عالمنا اليوم، وهو معارض رصين ومكين لنظام الملالي، هي تعبير دقيق لكونها امتدادا لما سبقها وعلى مدى سنوات طويلة وعبر تعاقب الفصول، ثورة لن تخمد جذوتها لحين تحقيق مطالبها، وطالما لا يقدم النظام الإيراني حلولا جذرية بدلا من القمع الذي تعود عليه كمنهج ومنطق لا يعرف سواه، والذي يعكس سلوكه المزمن والذي أثبت عدم جدواه كخيار يتيم.

معظم حركات التغيير عبر التاريخ تتصدر فيها المطالب الاقتصادية من خلال غياب العدالة الاجتماعية، والتي تمثل خللا في النظام القائم، مما يدعو الشعب إلى الثورة والتغيير، فالدوافع مرتبطة ببعضها ولا يمكن فصلها، فالحالة الاقتصادية والاجتماعية هي نتاج وضع سياسي قائم.

ربما يتساءل البعض، لماذا يصر الغرب على أن أسباب انتفاضة الشتاء في إيران اقتصادية؟ ربما نجد بعض الإجابة من خلال استعراض بعض تلكم المواقف..

تباينت المواقف حول انتفاضة الشتاء في إيران ما بين الموقف الأميركي المنقسم على نفسه «جمهوريون وديمقراطيون، ومحافظون وليبراليون» بين مؤيد ومعارض، وطغى السجال والحرب الكلامية على الفضاء الإعلامي بين مؤيد ومعارض ومدافع، وبين الموقف الأوروبي الغربي «الرصين»، والذي حصرها في زاوية واحدة من خلال منظور اقتصادي ضيق.

سأبدأ من الموقف الفرنسي ولنعد بالذاكرة إلى بداية الثمانينات، كان مرشد الثورة الإيرانية الراحل آية الله الخميني، يصف فرنسا عقب تدهور العلاقات بين باريس وطهران «بالشيطان الصغير» في مقابل «الشيطان الأكبر» الذي أطلقه على أميركا، نتيجة استقبال باريس للمعارضين الإيرانيين الجدد على اختلاف انتماءاتهم السياسية والإيديولوجية، وكذلك نتيجة انحيازها للنظام العراقي في حربه ضد إيران، وإبرامها صفقات تسليح ضخمة معه، بالإضافة إلى التعاون الفرنسي العراقي في مجال الطاقة النووية، طيلة هذه السنوات شهدت العلاقات توترا كبيرا بينهما وكانت لها تداعيات كثيرة، ولكنها وبعد الاتفاق النووي اتخذت بعداً جديداً، والذي تُوِّج بزيارة الرئيس الإيراني إلى باريس ولقائه الرئيس هولاند، والذي نتج عنه توقيع اتفاقات قيمتها حوالي 15 مليار يورو، وكما أوردته نشرة «سي إن بي سي» الاقتصادية عن مسؤول دبلوماسي فرنسي رفيع في 28 /1 /2016، وشمل أكثر من 24 اتفاقا للأعمال والتجارة وقعها في باريس وفد إيراني يضم 120 عضوا ويرأسه الرئيس الإيراني حسن روحاني، وكانت مجالات الاتفاق والتعاون كبيرة وكثيرة ومتعددة، وتتجاوز هذا الرقم بكثير، وتمتد إلى سنوات قادمة.

 ماكرون في اتصال هاتفي مع روحاني منذ أيام قال في سياق حديثه، نرفض المنطق الذي يعتبر إيران من محور الشر، ونعتبر أن ذلك يزيد من التوتر في المنطقة، وقدّر دور الحرس الجمهوري الإيراني في دحر الإرهاب من المنطقة، وأضاف قائلاً، لا ننكر دور فيلق القدس في القضاء على داعش ونقدر ذلك، وأن فرنسا ملتزمة بتطبيق الاتفاق النووي وباعتبار أنه يخدم مصالح الأمن العالمي.

على الجانب الأميركي يبدو أن الرئيس ترمب ما زال مصراً على عدم التصديق على الاتفاق النووي، وأنه سيعمد إلى الضغط على إيران من خلال العقوبات الاقتصادية، وهذا ليس كلاما مرسلا بل هو ما قاله مايك بنس نائب الرئيس الأميركي، وأن الإدارة الحالية والكونغرس يعملان لإقرار اتفاق نووي جديد لمنع إيران من تطوير منظومة الصواريخ التي من الممكن أن تحمل رؤوسا نووية، بدلا من الاتفاق السابق الذي يلزم إيران بوقف تطوير الأسلحة النووية لعشر سنوات فقط.

بنس أضاف أن بلاده ستواصل دعم الإيرانيين ضد النظام الإيراني القمعي الذي يشكِّل خطرا على شعبه، وعلى الأمن والسلام في العالم، واصفاً إيران بأنها «دولة مزعزعة للاستقرار وراعية للإرهاب».

هذا الموقف من قبل الإدارة الأميركية لم يلاقِ هوى لدى دول أوروبية مهمة مثل فرنسا وألمانيا، والذي كان واضحا من خلال دفاعهما عن الاتفاق النووي، والذي يمثل ركيزة أساسية للتعامل البيني وما يرافقه من استثمارات.

 حيث توقعت غرفة التجارة والصناعة الألمانية «ديهك» أن الاستثمارات مع إيران ستكون بعشرات المليارات بحلول عام 2025، وفي عام 2016 أعاد العديد من الشركات فتح مكاتبها التمثيلية وبيع منتجاتها في السوق الإيرانية، وتخطط للمزيد من الاستثمارات مع الشركاء الإيرانيين، فخلال عامي 2016 /2017 حقق الاقتصاد الألماني مبلغا تجاوز خمسة مليارات يورو في الميزان التجاري لصالح ألمانيا كصادرات إلى إيران، وكان الطلب مرتفعاً بشكل خاص على الآلات والمعدات والسيارات والمواد الكيميائية، فضلاً عن المنتجات الصيدلانية والطبية وغيرها كثير.

هذا جانب بسيط من مجالات التعاون بين أوروبا وإيران، والتي رافقت الاتفاق النووي، وهي تؤكد أن للغرب مصالح مع إيران تتجاوز التظاهرات ومطالبها الاجتماعية والسياسية، وركزت الضوء على الجانب الاقتصادي والدعوة إلى إجراءات تحتوي الغضب الجماهيري، مما يفسر لنا غياب البعد الإنساني لمطالب المتظاهرين في المنظور الغربي.

فرانسوا نيكولو السفير السابق لدى إيران يقول مما لا شك فيه أن الموقف الأوروبي أقل إفادة لنا أمام الرأي العام لدينا، لكنه ينم عن حكمة!.

كما يبدو أن مواقف الدول الكبرى تتسم بإيقاع بطيء ومتحفظ تجاه ما يحدث من حراك كبير وممتد في الداخل الإيراني، باستثناء تغريدات الرئيس ترمب، وهذه المواقف بمجملها تتوخى الحذر الشديد للخوض في تداعياته، وتنأى بنفسها بعيداً عن مجرد التفكير فيما قد تؤدي إليه من احتمالات مجهولة، وحتما لا تأتي على هوى سفنها المشرعة باتجاه طهران.

سيظل الغرب في مجمله ينظر إلى الحراك الإيراني المستمر نحو التغيير بأفق ضيق يحصره في زاوية ذات نظرة أحادية، ليعتبره كانتفاضة من أجل الخبز يقوم بها الجياع والفقراء، «وهو ليس صحيحا بالمطلق، بل هو جزء من حراك يأخذ أبعادا أوسع وأعمق»، ويمكن التصدي له ببعض الحلول الاقتصادية لتخفيف الأعباء المعيشية، والنأي بعيدا عن حقيقة النهج الشمولي وسياسة القمع وغياب العدالة ومصادرة الحريات، الاتحاد الأوروبي كما يبدو ينأى بنفسه عن أي عراقيل محتملة تهدد مصالحه في الشرق الأوسط وإيران بشكل خاص، والتي يعتبرها من مكتسبات الاتفاق النووي معها.