قدمت لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب بمجلس الشورى دراستها لتقرير وزارة العمل والتنمية الاجتماعية للعام 1437 /1438، وتضمنت الدراسة وفرة من التوصيات، تتلاءم مع ثقل الملفات التي تضمها حقيبة الوزارة. عشر توصيات تصب كلها في السياقات ذاتها التي تتكرر مع كل تقرير، البطالة، والسعودة، والعنف، والأسر الضمانية، والصناديق بأنواعها، والحالات الخاصة بما فيها شؤون ذوي الإعاقة، ودور الحماية وقضايا العنف! ومن الطبيعي أن تحظى قضية البطالة بنصيب الأسد من مداخلات الأعضاء، لكونها قضية تطال نسبة كبيرة من المواطنين، ولكونها المشكلة المزمنة التي فشلت -وتفشل- في حلها، هياكل إدارية يجري تغييرها بكثرة على رأس هذه الوزارة، في محاولة لحل هذا المشكل. ليس ذلك فحسب، بل إن الشريحة التي تمسها تمثل الجزء الديناميكي من المجتمع، شريحة الشباب التي تمثل الأغصان النامية من شجرة جذورها توشك على الجفاف والموت إن لم يجر تدارك أغصانها بما يسمح لها بالنمو والازدهار.

وتكرار التوصيات ذاتها عاما بعد عام سلاح ذو حدين، وصورة بوجهين، فهو - من جهة- يمد المحاولات الحثيثة من المهتمين بمشاكل الوزارة، بمزيد من الطاقة والأمل، حين يصادفون كل عام مزيدا من السائرين في الطريق ذاتها، ومعهم مشاعل، ومعاول يحفرون الأنفاق، ويبنون الجسور، كل بما يتاح له من أدوات الحل، وفيما ينكشف له من جوانب المشكل. وهو –من جهة أخرى- يحبط أولئك المنتظرين في الجانب الآخر من النفق، إذ يرون الخطوات كل عام تكاد تعود إلى نقطة البداية.

وحتى نكون منصفين علينا أن نقر بأن دمج الشؤون الاجتماعية والتنمية والعمل في كيان واحد قد زاد من مشاكل هذا الكيان في فرعيه، فبعدت الشقة على الوزارة فيما يخص قطاع العمل، وجاء ذلك على حساب قطاع التنمية والشؤون الاجتماعية، التي فقدت نصيبها من الاهتمام، وتراجع وضعها مقارنة بما كان عليه قبل انضمامها لقطاع العمل في حقيبة واحدة.

لقد بات ترتيب الأولويات في سلم مشاكل الوزارة مهمة مستحيلة، فإن كان الكم هو المعيار تربعت البطالة على رأس السلم، وإن كان الكيف هو المعيار كانت الحالات الخاصة هي الأولى بسرعة التعامل مع حاجاتها، إذ هي حاجات تمس أعلى ضرورات الحياة، النفس والصحة، وفي هذا السياق علينا أن نؤكد على حقوق الأسر الضمانية التي لا عائل لها، وذوي الإعاقة الذين تنقصهم القدرة على العناية بأنفسهم، ونزلاء دور الحماية ونزيلاتها، بتوفير المكان اللائق لحياتهم، لا سيما أنه مكان يضطر كثير منهم لقضاء بقية حياته فيه! ولعلني أضم صوتي إلى ما اقترحه بعض أعضاء المجلس من ضرورة توفير الحماية اللازمة لفتيات دور الحماية، ومنحهن الحق في حياة كريمة، بعد أن أنهين ما تقرر عليهن من عقوبات.

أما القضية التي تشغل ذهني وأراها تحتل مساحة كبيرة على خارطة مواجع المواطنين، في جانبها الصحي، وجانبها الاجتماعي، فهي قضية حالات اضطراب طيف التوحد، وأسرهم. تلك القضية التي حظيت بمشروع وطني للتعامل معها منذ أكثر من عقدين، لكنه – على قصوره- ظل حبيس الأدراج، وظلت المشكلة تتفاقم ككرة الثلج. وفي هذا السياق قدمت توصية – تبنتها اللجنة أثناء عضويتي فيها- أحاول من خلالها لمس بعض جوانب القضية، ووضعت عليها شرحا مفصلا –ربما أزعج تفصيله بعض المستمعين- على أمل أن تتضح جوانب المشكلة، وخطورتها، فهي ليست بحاجة للإيقاف فحسب، بل لمنع إحداث مزيد من الضرر بما يحدث من تصرفات لا مسؤولة من الجهات المختصة.

غني عن القول ما تعنيه هذه الحالات من ضرر يقع على الأسرة بكاملها، حيث يعجز أولياء الأمور (ماديا واجتماعيا ومهنيا) عن الوفاء بما تتطلبه حاجات المصاب، ومن ذلك السفر المتكرر والإقامة في مناطق يتوفر فيها التأهيل المستمر، وغالبا ما تكون خارج البلاد، فهم يتعاملون مع اضطراب ملازم للحالة مدى الحياة، لا مع مرض يمكن مواجهته بوصفة طبية. يضاف إلى ما سبق، الضرر الاجتماعي وحالات الانفصال التي تترتب عن عجز الأهالي عن التعامل مع الحالات، في ظل انعدام توفر مقدمي الخدمة. وبهذا الصدد علينا الامتنان لما تقدمه الدولة عبر وزارة العمل والتنمية من إعانات كبيرة لهذه الحالات، لكنه اعتراف مشوب بالأسف، إذ يتحول هذا الإنفاق السخي إلى هدر مالي ضخم، بلا عوائد منظورة، وعلامة ذلك ما نشهده من ازدياد ملحوظ في حالات اضطراب طيف التوحد، واضطرابات النمو بشكل عام، مما يضع علامات استفهام بلا عدد عن الأسباب؟!

 لعل غموض هذا المشكل –الذي لا يمكن فهمه إلا لمن يقبض على جمرته- هو أهم الأسباب في إهمال علاجه من الجهات المختصة، فهناك ندرة في الكادر الطبي ومقدمي الخدمة المؤهلين في تخصص اضطرابات النمو الشامل، فضلا عن طب نفس الأطفال بشكل عام. وذلك يؤدي –من جانب- إلى عدم وعي المسؤول بحجم المشكل كما وكيفا، وهو - من جانب آخر- سبب في التأخر الشديد في التشخيص والمتابعة والتأهيل الذي تتطلبه الحالات، مما يستتبع نقصا بوعي الأسر بدورها في تشخيص الحالات المبكر، وتأهيلها في المنزل، وذلك يعني تحول الحالات البسيطة - التي أمكن تأهيلها لو شخصت في الوقت المناسب- إلى حالات متأخرة تشكل عبئا على الأسر والدولة، في دائرة مفرغة، يسهم دورانها المستمر في تفاقم الأزمة!

أجد نفسي مضطرة إلى التفصيل والإلحاح ورفع الصوت، أملا في إلقاء الضوء على بقعة لا تطالها أشعة الشمس، ولفت الانتباه لمن لا يملك صوتا، ويعوزه البيان، وتعجز أدوات البلاغة عن وصف مواجعه، ورسم آلامه، لمن بيدهم الأمر. ومن بيدهم الأمر ليسوا أشخاصا افتراضيين ولا أبطالا أسطوريين، بل هم أنا وأنت، وهم، وأولئك، وكل واحد في موقعه، ومن جانبه، يفتح عينا، ويصغي سمعا، لمن يعيشون في سجن غير منظور، تتشكل قضبانه الشفافة، من إعاقات الذات والأبناء فلذات الأكباد، ونزيف مستمر ينتظر أن نشعر به، ونسهم في إيقافه.

أضم صوتي إلى إخوتي من أسر حالات التوحد، وأتطلع معهم إلى مواجهة نقص الكوادر والخدمات، وتضاعف الحالات، ببناء إستراتيجيات لبرنامج مستدام متكامل للتعامل مع حالات اضطراب النمو الشامل في جميع مناطق المملكة، يعتمد على تنظيم الكوادر المحلية (مقدمي الخدمة والمنتفعين بها) وفق شبكة مترابطة، تضم أفرادا ومؤسسات، من الأسر والمتطوعين وأصحاب الخبرة والتخصص، شبكة تعمل في منظومة مستمدة من أنظمة المؤسسات الاجتماعية، كما في البلدان المتقدمة.

وسيسهم ذلك في وضع القدم على طريق الألف ميل، لتحقيق مزيد من الفعالية لما يتوفر من خدمات محدودة، بتنظيمها لتصل إلى أكبر شريحة ممكنة من المصابين باضطرابات النمو الشامل، المسجلين في القطاعات الصحية وغير المسجلين فيها، بالمناطق كافة. وسيدعم ذلك مشروع المركز الوطني لاضطرابات النمو، في بناء قاعدة بيانات لتوثيق حالات اضطرابات النمو الشامل في المملكة، وفي إصدار البروتوكولات والسياسات المرجعية، لتسهيل تقديم الخدمات في جميع التخصصات ذات العلاقة، وفي بناء شبكة علاقات وشراكات فعالة لتطوير الخدمات المقدمة للحالات، وتطوير التخصصات ذات العلاقة. وفي سبيل ذلك علينا بناء جسور التواصل بالجهات العاملة والناشطة في المجال نفسه، في مختلف الدول، للاطلاع على التجارب الناجحة، وتبادل الخبرات.