ربما كان مقال الأستاذ خالد المالك أجدّ أعمدة الصحافة السعودية وقياداتها يوم الخميس الماضي، وأول تنبيه لموضوع مضى عليه أكثر من ثلاث سنوات مغمورا، في صمت عجيب من قبل الصحفيين السعوديين الذين يتحدثون عن كل شيء إلا في ما يخصهم أو يهدد مهنتهم، بينما كان هذا الموضوع هو الأعلى نقاشا بين الصحفيين الغربيين بمؤتمرات وورش عمل تنبه وتضع خارطة طريق لمستقبل الصحافة الورقية، ومنها مقال للكاتب الأسترالي مالكوم تورنبول في مقال له حول مستقبل الصحف، هناك حقيقة يجب ألا يتم تجاهلها لقد انخفض الإيراد وليس عدد القراء.
بينما يقول جون كسيدي إن صحيفة فايننشال تايمز أصبح لديها عدد قراء أكثر من أي وقت مضى بسبب موقعها الإلكتروني التي تفرض اشتراكا لدخوله، مما أظهر عددا كبيرا من المشتركين.
الصحف -كما هو معروف- لم تعتمد أبدا على ما يدفعه القارئ لشرائها في مسألة التمويل، بل على ما يدفعه المعلن، فأين ذهب ما يدفعه المعلن؟
في الحقيقة أن الإعلانات أصبحت تجد طريقها للمستهلك عبر الإنترنت بالتعاقد مع المشهورين في قنوات التواصل الاجتماعي وعبر القنوات الفضائية، لكن كل ذلك لم يفقد الصحف قارئها، بل في الواقع أول مكان يلجأ له القارئ للبحث عن المصداقية هو الصحيفة الرسمية التي يعرفها وليس يوزرات في تويتر أو فيسبوك، خاصة أن هناك توجها رسميا ينبه الناس لخطورة المحتوى الرقمي وعدم مصداقيته ووجود آلاف الحسابات المملوكة للنظام القطري مثلاً، كل هذا سيؤثر مستقبلا على ثقة القارئ في المحتوى الرقمي، وسيدفعه للبحث عن مصدر لإشباع رغبته بالقراءة والثقافة، فأين تقترحون أن يجدها إذا قامت الصحف السعودية بالتوقف عن الطبع وأغلقت أبوابها؟
لذا دعونا نطالب الحكومة بدعم الصحافة السعودية، ولن تكون أبدا أول من يفعل ذلك،
فقد سبقتها الحكومة البريطانية بعدم إلزام الصحف بدفع ضرائب على المبيعات، كما توفر لها تخفيضا على مصاريف النقل وغيرها، كما أن بريطانيا كبلد متعدد الأحزاب لكل حزب صحيفته التي تدعمها، صحيفة فايننشال تايمز والديلي تيلجراف تدعمان المحافظين، بينما الجارديان تدعم الليبراليين والعمال، لا شك أن هذا الدعم بالمقالات والأخبار لا يأتي مجانا مما يدفعنا للتساؤل هل تتلقى الصحف دعما ماديا من رجال الأعمال المنتمين للحزب مثلا، انتصارا منهم لمبادئهم وقيمهم التي يؤمنون به.
كما أن فرنسا نفسها قدمت دعما بما يزيد على 700 مليون يورو كما أعلنت وزارة الثقافة الفرنسية، وذلك قطعا لأن فرنسا تخشى على ثقافتها وقيمها لو أفلست صحف مثل الفيجارو واضطر القارئ لقراءة صحيفة أنشأها تاجر متطرف أو أجنبي لا يؤمن بمبادئ الثورة الفرنسية مثلا.
في الحقيقة هذا هو الواقع وهذه هي الحياة، ولا أقصد الصحيفة السعودية العظيمة التي توقفت نسختها الورقية بسبب المال، بل أقصد حياتنا التي يتصارع فيها أطياف عديدة من الفكر والتوجهات والأيديولوجيات لا نستطيع معه تخيل لو تم فيه التخلي عن الصحافة السعودية، وبالتالي إقفال أبوابها لينفتح علينا باب واسع تدخل منه عشرات الصحف لا تحتاج لموافقتنا ولا حتى دعمنا، وهي قطعا لن تخدم قيمنا ولا توجهاتنا، بل تخيل عشرات الصحفيين السعوديين بلا عمل أو مرتبات وهم من أمضوا أعمارهم في خدمة ثقافتنا وفكرنا وأدبنا.
وبالطبع لا يلغي ما سبق دعوتنا للصحف لتطوير نفسها ومسابقة الزمن والفكر، وإيجاد مكانة تليق بها في عصر التقنية الحديثة.