بعض الناس لا يكتفي بقول الباطل، وإنما يحاول أن يدحض به الحق، وهذا المسلك وإن تم تمريره على بعض الأتباع، إلا أنه غير صحيح، والحق لا بد أن يحصحص، والظواهر الصوتية وعنترياتها العالية، وإن أطرب بها صاحبها جمهوره مؤقتا، إلا أن مآلها للزوال والاضمحلال، لأنها لم تبن على أساس صحيح.
ومن ذلك: أن بعض الناس - هداهم الله - يقع في التهييج والإثارة على بلده، فإذا قيل له اتق الله، واترك هذا المسلك الوخيم، فإنه منهي عنه شرعا، أجاب: بأن من حقنا إبداء الآراء، ومناقشة القرارات، والنقد الذي يوجه المسيرة، ويحقق المصلحة، أتريدوننا صما بكما؟
فانظر أيها القارئ الكريم لهذه المغالطات، والمجادلة بالباطل، ما علاقة مناقشة القرارات، والنقد البناء، بالتهييج والسب والاتهام والإثارة؟ ولكن هكذا يفعل من يتعمد خلط الأوراق، ولبس الحق بالباطل.
فنقول له: ها هو مجلس الشورى يناقش القرارات علنا وينشر ذلك في التلفاز، ويدعو الوزراء ويسائلهم، وها هي الصحف تنشر لكتاب الرأي آراءهم، ونقدهم البناء، ويتفاعل معها المسؤولون في الوزارات، ويستفيدون منها، وهناك برامج حوارية في التلفاز واللقاءات لإبداء الآراء النافعة، ولم يقل أحدٌ إن هذا ليس من حقهم، أو إن عليهم أن يصمتوا، وإنما الذي يقال لمسؤولي الوزارات: عليكم أن تتفاعلوا مع الإعلام، وتجيبوا عن الاستفسارات، لم يقولوا كونوا صما بكما، فلمصلحة مَنْ هذه الأغاليط، وقلب الحقائق، وتمرير الباطل باسم الحق؟
ولماذا يُلبِّس من يثير الناس ويهيجهم على ولاتهم وبلادهم، ويزعم أن فعلهم هو من باب إبداء الآراء، ومناقشة القرارات التي تهمهم؟ يدَّعون الإصلاح، وما هكذا يكون الإصلاح، وما هذا هو سبيل المصلحين، فعبدالله من سبأ ومن تبعه من الخوارج زعموا الإصلاح تحت غطاء المطالبة بالحقوق، وهيجوا الناس، حتى قتلوا أمير المؤمنين الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، والمفسدون اليوم يسلكون طريقة ابن سبأ، وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون، هكذا يسمون إفسادهم إصلاحا، والواقع أنه لا علاقة لهم بالإصلاح من قريب ولا بعيد.
فالمصلح: يزن كلامه، وينظر هل كلامه فيه خير فيقدم، أم لا فيحجم، عملا بحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
المصلح: لا يندفع للدخول فيما لا يحسن، حتى وإن زعم أن ذلك يصنع له أمجادا وجمهورا.
المصلح: يدور مع الدليل حيث دار، ويسعى لتحقيق رضا الله، ولا يهمه بعد ذلك أرضي الخلق أم غضبوا، لعلمه أن رضا الله مأمور به، ومقدور عليه، ورضا الناس غير مأمور به، ولا مقدور عليه، ولذلك فهو ليس ممن إذا أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط، ولا يستخفه الجمهور، ولا يسير خلف كل ما يطلبه المستمعون، وإن أردت مثالا، فهذا الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه طلب منه الناس مطالب تجاه الخليفة، فلم ينقد لما أرادوا وإنما قال: (أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، مادون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه)، فهو رضي الله عنه فعل ما يراه حقا، لا ما يطلبه الناس.
ومن فعل ما يطلبه الناس من الإثارة ندم ندما عظيما، ومن ذلك قول عبدالله بن عكيم: لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان، فقيل له: يا أبا معبد! أوَأعَنت عليه؟ قال: كنت أعد ذكر مساويه عونا على دمه).
والشعبي كذلك ندم ندما عظيما في دخوله فيما يهواه الناس من أمر الولاية، ولهذا لما قيل له: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوَّتَ إنسانٌ فكدت أطير.
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.
فالمتعين على المسلم أن يحفظ لسانه، فإن ثمة فتن، اللسان أشد وقعا فيها من السيف، والفتنة إذا وقعت - كما يقول ابن تيمية - عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر عاجزين عن إطفاء الفتنة، وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.