فيما تتصاعد الهاشتاقات المدوية التي يُطالب فيها بعدم استخدام اللغة المكسرة مع العمالة، سأطرح في مقالي اليوم هذه الظاهرة - لغة العمالة- من المنحى اللغوي، من حيث الاستراتيجيات المتبعة ودوافع استخدامها والمدة الزمنية للانتقال منها إلى المستوى الأعلى. لغة العمالة (Foreigner talk) هي استراتيجية لغوية طبيعية، حيث يقوم المرسل والمستقبل باستخدام تراكيب لغوية مبسطة دون التطرق إلى القواعد نحوية والصرفية بغية إيصال المعنى بوضوح ويسر وسهولة بين المجموعات والفئات التي لا تتشارك نفس اللغة.

 وتعود الظاهرة إلى كل من القرن السابع والثامن نظرا لتزايد أعداد المهاجرين والتمدن وإنشاء العرب مدنا عسكرية التي جذبت أعدادا هائلة من النازحين من جميع أنحاء العالم للعيش فيها، فكانت اللغة العربية هي لغة السيادة والبرستيج، في ذلك الحين ظهرت الحاجة إلى إيجاد لغة متبادلة بين العرب وغير العرب عن طريق التخاطب بصيغ مبسطة ومختصرة لتسهيل التبادل التجاري والثقافي بين العرب والأجانب (محمد الشرقاوي، 2010). لطالما سمعت مطالبات العديد من الأشخاص بالتخلي عن هذه الاستراتيجية واستبدالها باللغة العربية، فمن وجهة نظرهم أننا نحن السبب وراء عدم تعلم الشخص لعدم تحفيزنا له في هذا النطاق.

 لن أتطرق إلى الحريات وحقوق الإنسان في هذا الصدد إنما سأقفز إلى التحليل اللغوي مباشرة. بداية نحن نريدهم أن يتقنوا اللغة العربية الفصحى وذلك لن يحدث لأننا نستخدم اللهجات المحلية مع بَعضنَا البعض في الحياة اليومية عوضا عن الفصحى أو العربية الكلاسيكية، فكيف بالعامل أن يفرق بين اللهجات المحلية؟ على سبيل المثال العامل تعلم اللهجة الجنوبية ومصطلحاتها، ومن ثم ذهب إلى البقالة واصطدم بصاحب المحل أو العامل الذي يتحدث اللهجة القصيمية، فما احتمالية فهم العامل لهذه اللهجة وخصائصها؟

 إن تبسيط وتجريد الكلام من الصيغ والمصطلحات المعقدة والقواعد النحوية والصرفية فعل ينم على حسن التصرف وفك شفرة اللغة الهدف ومن ثم احتمالية إتقانها. أيضا هذا الكلام المخفف ليس حكرا على غير العرب بل العرب يتحدثون الإنجليزية المكسرة وغيرها من اللغات في مواطن عديدة، مثل الطلاب في المرحلة الأولى من الابتعاث أو خلال السياحة والسفر إلى بلاد أجنبية. فعلى الأغلب يستخدم الشخص أمرا واضحا جدا كالفعل (روح، يجي، ودي، جيب) أو الاسم. فلنفرض أن لدينا شخصين وكلاهما يودان معرفة مكان المستشفى، الشخص الأول مستواه أقل من مبتدئ فسيقول على الأغلب،

‏Hospital… where عوضا عما سيقوله شخص متوسط المستوى في اللغة الإنجليزية والذي سيقول ‏Where is the hospital، الشخص الأول قدم اسم المستشفى في بداية الجملة لكون هذه الصيغة مشابهة لما سيقوله باللغة العامية: «وين المستشفى؟» ولكون كلمة «المستشفى» أهم معلومة في الجملة فسيقوم الشخص بتقديمها على باقي الكلام ليلقي الضوء ويشد الانتباه.

يذكر أن هذه الظاهرة ليست حكرا على غير متحدثي اللغة العربية إنما يلجأ العرب بطريقة تلقائية وطبيعية إلى الحديث بهذه الصيغ عند وجود حاجز اللغة والثقافة، وتعد ظاهرة مشتقة من سلسلة استراتيجيات وتكتيكات التواصل اللغوي (communication tactics) يطلق عليها (اللهجة البيضاء)، وهي خالية من خصائص اللهجات المميزة لها وتوظف في نطاق لغة واحدة ضمن اختلاف لهجاتها المحكية، بينما لغة العمالة تعد تكتيكا يوظف ضمن نطاق لغتين مختلفتين. وتشمل التكتيكات عدة نطاقات متكررة، فعلى نطاق الصوت يوظف كل من البطء في الكلام وإيضاح مخارج الحروف مع قلة الالتزام بعلامات التشكيل ومد بعض الحروف الأخيرة، مثل كلمة هدا وكدا، أيضا الشد وتفخيم بعض الحروف في نهاية الكلمات، والمبالغة في إصدار النبرات المختلفة، وتشمل أيضا صعيد المفردات بتكرار الكلمات وعدم استخدام المصطلحات العامية والحكم والأمثال، واستخدام مالئات الفراغات في الكلام (هدا، هو، يعني ) (filler words) مع استخدام عبارات التودد مثل (يا حبيبي ويا اخويا ويا اختي) فيما تكون الجمل قصيرة وغالبا ما تتكون من ثلاث كلمات كحد أقصى، واستخدام حروف الجر بشكل واضح ومختصر مثل (في كويس، في كتير) وبالتأكيد عدم الالتزام بتصريف الأفعال وفقا للأزمنة المناسبة، وهنالك أمور أخرى على نطاق الحوار.

 لغة العمالة أو بالأصح لغة الأجانب ظاهرة موجودة في جميع المجتمعات والدول التي بها أعراق وثقافات متنوعة كأميركا ودول أوروبا والدول العربية. فمن الأجمل الأخذ بهذه الظاهرة من الناحية الإيجابية فهي بمثابة تذكير بعراقة الحضارة الإسلامية وأهمية الشرق الأوسط من النواحي الدينية والاقتصادية والسياسية، كما يتحتم علينا اغتنام الفرصة بتعليم العمالة القرآن الكريم واللغة العربية الحقة عِوَضاً عن اللهجات.

 وإجابة عن التساؤل الأهم وهو متى يستطيع الشخص إتقان اللغة أو متى ينتقل إلى المستوى الأعلى أثناء حديثه مع العمالة؟ بكل بساطة سيعلم بنفسه عندما يأتي الوقت المناسب، نظرا لأن تعلم اللغة يأتي تدريجيا وعلى الأغلب بعد ثلاث سنوات من ممارستها، ومرحلة الإتقان تأتي بعد ذلك، فالتمسوا العذر للعمالة ولمتحدثي لغة العمالة.