تنطلق فعاليات التوظيف المختلفة في هذه الفترة ومنذ أعوام عديدة؛ مع نهاية الفصل الدراسي الأول، وتتكرر في نهاية الفصل الثاني من العام الدراسي في سائر مناطق المملكة الرئيسة، والتي قد تتقلص لفترة واحدة في بعض المناطق، وتتحدد في نهاية الفصل الثاني من العام الدراسي. ويستند انطلاق تلك الفعاليات إلى قاعدة أو فكرة تستهدف خدمة التوظيف وتيسير إجراءات وصول أبنائنا وبناتنا من الشباب إلى الوظائف الملائمة، التي تناسب طموحاتهم وتخصصاتهم العلمية المختلفة، وبما يسهم في الانخراط في ميدان الحياة العملية فور تخرجهم واستكمال تأهيلهم العلمي، ولذلك يهتم كثير من جهات التوظيف كالشركات والمؤسسات المختلفة بالمشاركة في تلك الفعاليات لتقوم بدورها في التعريف عن القطاع الذي يمثلونه، وماهية نشاطاته، ومدى أهميته، وما آلية التوظيف فيه؛ بالإضافة إلى محاولة استقطاب الخريجين لتلك الوظائف المتاحة لديهم كجزء من مسؤوليتهم الوطنية نحو احتواء المواطنين وتوظيفهم، بما يخدم عملية التوطين المستهدفة، ويسهم في تنفيذ عملية الإحلال المطلوبة في الوظائف المتاحة لديهم، وكذلك الوظائف المشغولة بغير المواطن، وبذلك يمكن تحقيق إنجاز فعلي في عملية التوطين بالتوظيف التدريجي من خلال احتضان مخرجات جامعاتنا المختلفة، وما تضيفه معاهد وكليات التقنية المختلفة من مخرجات وكوادر فنية من أبنائنا، وبهم تتشكل البنية التحتية الإدارية والفنية لسوق العمل الوطني، والذي تستأثر به الشريحة الأكبر من غير المواطنين.

وإن الاهتمام بجدوى تلك الفعاليات الوطنية وتقييم مردودها ذو أهمية بالغة، لكونه يتعلق بأحد مستهدفاتنا الوطنية ورؤيتنا الاستراتيجية التي تهتم باحتواء ومعالجة أحد أهم تحدياتنا التنموية المختلفة التي نعيشها، ألا وهو «توطين الوظائف» وتوفير فرص عمل للمواطنين، والعمل على تأسيس قاعدة وطنية لسوق العمل قوامها كوادرنا البشرية المواطنة، والذي يُثمر بدوره عن تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي يشمل جميع شرائح المجتمع الوطني، بما ينعكس على رفاه اجتماعي وأمن اقتصادي، ويسهم كذلك في الحد من البطالة المتنامية، ويعمل على توظيف آلاف من الباحثين عن عمل ولا يجدونه، أو أنهم يجهلون آلية البحث الأفضل أو نوعية الوظائف والفرص المتاحة في سوق العمل بقطاعاته المختلفة، والذي يحول دون وصولهم إليها، خاصة مع عدم وجود قاعدة بيانات وطنية تحوي كافة الوظائف المطلوبة والمتاحة، من خلال بوابة وطنية موحدة تشمل القطاع العام والخاص، وما يتصل بذلك من متطلبات لكل وظيفة وطبيعة العمل فيها.

ولعل ما نشهده في معارض التوظيف أو أسبوع المهنة أو «يوم المهنة» -كما يسمى أحياناً- من ممارسات يكشف أن تلك الفعاليات التي تحتضنها الجامعات أو ترعاها المؤسسة العامة للتدريب المهني والتقني أو وزارة العمل كمظلة لسوق العمل المستهدف، لم تنجح فعلياً في تحقيق الهدف من وجودها أو تفعيلها، بل وأخفقت إخفاقا ملموساً في ترجمة تلك الجهود المقصودة إلى منجزات وطنية حقيقية، حتى أصبح دور تلك الفعاليات ينحصر في عمل دعاية للمؤسسات والشركات الحاضرة في تلك الفعاليات للتعريف بنفسها ونشاطها في سوق العمل، دون أن تستشعر سبب وجودها الفعلي، أو ما يمكن أن تسهم به في تحقيق الهدف الجوهري من وجودها وهو «توظيف المواطن»، وتيسير إجراءاته، وهذا يتطلب بدوره إبرام عقود عمل فورية مع هؤلاء الخريجين كل في مجاله، وذلك لمن استكملوا تأهيلهم ومتطلبات تخرجهم، بينما تكون هناك عقود مؤجلة يتم عقدها بصفة مبدئية لمن لم يستكملوا متطلبات التخرج وهم على وشك التخرج، وحيث إن التدريب جزء من التأهيل المتكامل للوظيفة فلتكن تلك الجهات مسؤولة عن التدريب لهؤلاء الخريجين في قطاعاتها، سواء استكملوا متطلباتهم أم لم يستكملوا، وذلك يرتبط بنظام الجامعة أو الكلية التي يتبعونها، والفترة المحددة للتدريب فيها؛ وبذلك تحصد الشركات موظفين مؤهلين ومدربين من المواطنين وفق نظامها الخاص، كما يضمن المتخرج فرصة عمل تناسب مؤهله، وتدريبا يُمكِّنه من أداء دوره المهني المطلوب.

ومما يجدر التنويه له إن معارض التوظيف التي تعقد للمبتعثين في بلد الابتعاث من قبل شركاتنا ومؤسساتنا الكبرى تنتهج الأسلوب الصحيح في الأخذ بمبادرة التعريف بالعمل والتوظيف للمتخرج، بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، وبما يتضمنها من متطلبات كالمقابلات الشخصية والوثائق العلمية والشخصية وغيرها، بل وإن قلة نادرة من تلك الشركات الكبرى تأخذ بنفس الأسلوب هنا، ولكنه يكون قاصراً على قلة نادرة من الخريجين وبتحديد مقنن لنوع الوظيفة المطلوبة؛ أما سائر الشركات والمؤسسات على اختلاف نشاطاتها فإنها تشارك بالحضور لإثبات تواجدها في سوق العمل الوطني شكلياً، ودون اكتراث بأهمية دورها ومسؤوليتها الوطنية في احتواء هؤلاء الخريجين واستقطابهم للتوظيف والتدريب، بل على النقيض عند التقديم لهم فيما بعد، يشترط كل منها شروطا تعجيزية تحول دون توظيف المواطن حديث التخرج؛ كأن تشترط خمس سنوات خبرة في مجال العمل، أو إتقان مهارات معينة لا يمكن توفرها إلا بممارسة العمل فعلياً والتدريب عليه لفترة قد تمتد لعدة سنوات، وغير ذلك من المتطلبات التي تؤكد أن تلك المؤسسات تحتاج إلى تغيير في استراتيجياتها وتصحيح في رؤيتها الوطنية واستشعارها لواجباتها ومسؤولياتها الاجتماعية المطلوبة.

وإذا ما اطلعنا على البيانات الإحصائية الوطنية ذات الصلة بسوق العمل ونسبة المشتغلين من السعوديين لنجد أن الحقائق والأرقام تؤكد تقاعس قطاعنا الخاص عن تحمل مسؤوليته الوطنية في التوظيف، والذي يبرز الخلل والإخفاق المستمر في فعاليات معارض التوظيف الشكلية، إذ تشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء بأن نسبة المشتغلين من السعوديين في سوق العمل الوطني في الربع الثالث من العام 2017 لا تتعدى نسبة (22.26%) وبعدد (3.063.744)، وقد كانت (22.05%) في الربع الثاني من العام نفسه بعدد (3.052.449)، بينما ترتفع نسبة المشتغلين من غير المواطنين في سوق العمل الوطني إلى (78%) من نسبة المشتغلين في الربع الثاني والثالث من العام نفسه، بعدد (10.788.709) و(10.694.320) على التوالي، بما يعني أن حجم الفاقد في سوق العمل من غير المواطنين نحو مئة ألف فقط، وهذا رغم تطبيق رسوم العمالة الوافدة والتوجه الوطني نحو التوطين؛ أما الباحثون عن عمل من المواطنين فقد ارتفع من (1.075.933) باحثا عن عمل في الربع الثاني من العام 2017، إلى (1.231.549) باحثا عن عمل في الربع الثالث من العام نفسه، بما يفسر ضعف احتواء القطاع الخاص لمخرجاتنا من المواطنين، ويؤكد أن هناك خللا في تنفيذ سياسة التوطين، وذلك مع الأخذ في الاعتبار التدفق المستمر لمخرجاتنا الوطنية من الجامعات الوطنية والقادمين من البعثات الخارجية، كما أن معدل البطالة لا زال (12.8%) بين المواطنين، هذا بالإضافة إلى انخفاض واضح في نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل الوطني، والتي لا تتعدى (7.38%) من جملة المشتغلين، ونسبة (33.5%) من المشتغلين السعوديين.

وبناء على ما تم رصده من بيانات إحصائية عن واقع سوق العمل فإن ذلك ليؤكد أن هناك خللا كبيرا وإخفاقا عميقا في السياسات المتبعة في توطين سوق العمل، وفي البرامج والإجراءات التابعة لها، وبما يضمن تحقيقها لمستهدفاتنا الوطنية، حيث إن واقع الموارد البشرية في سوق العمل لا يتطلب فقط استحداث وتوليد وظائف جديدة للمواطنين، وإنما نحن بحاجة إلى تنفيذ فعلي لسياسات الإحلال في الوظائف المتاحة حالياً لصالح الموارد البشرية المواطنة؛ وذلك يتطلب مراجعة وتعديل مواد ونظام سوق العمل والعمال، بالإضافة إلى مراقبة ومتابعة واقع التوطين وقياداته البشرية ومدى الالتزام بتنفيذه في القطاعات المختلفة، وأن يخضع ذلك جميعه للمساءلة والحوكمة في إطار نظام وقوانين تشمل سوق العمل الوطني بقطاعيه العام والخاص، وبما يكفل تحقيق رؤيتنا الاستراتيجية وتطلعاتنا الوطنية.