في الوقت الذي ترى فيه شريحة كبيرة من سكان العالم أن عهد الصحافة التقليدية الورقية على وشك الانهيار، وأنها في الوقت الراهن تلفظ أنفاسها الأخيرة -وهذا أحد الاحتمالات الكبيرة التي قد تحدث في المستقبل-، إلا أن ما يلوح الآن أمام أعينهم ويلح في طلب سرعة التعامل معه بطريقة مقنعة، هو حقيقة ضرورة كبح جماح مواقع وسائل التواصل الاجتماعي والسيطرة عليها، وهي الحقيقة التي أفرزتها مشكلة حجم التدفق الهائل للأخبار المزيفة التي تنقلها وسائل التواصل الرقمية الحديثة على مستوى العالم أجمع، مخترقة كل حالات الحراك سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا، وهو ما جعل البحث عن المصداقية نقطة جوهرية -كعادتها- لكل المتلقين دون استثناء.
جوانب كثيرة أسهمت في ازدهار وانتشار مشكلة «الأخبار المزيفة»، تمثلت في إمكانية الحصول على الخبر بسرعة فاقت توقعات المتلقين أنفسهم، لتتغلب النزعة البشرية النفسية في الحصول على لقب الأسبقية قافزة إلى مقدمة التعامل مع الرسالة، قبل البحث عن ماهيتها وأصلها وقوة صدقيتها.
وهذه ليست هي منطلقات وسائل التواصل الحديثة الأساسية التي ظهرت فجأة لتجد نفسها كبيرة بأجنحة متعددة في فضاء غير محدود أو مسيطر عليه بقوانين أو ترتيبات سوى ما تمليه الأخلاقيات الإنسانية، وهي النقطة الأضعف حين يترك القرار لميول ونزعات الشخص نفسه، خاصة إذا ما عرفنا أن أنـحاء كثيرة في العالم ما زالت تحتاج إلى تعليم وتوعية وتثقيف، إذ بلغت نسبة الأمية في نهاية عام 2015 نسبة 16% بحسب تقارير منظمة اليونيسكو التي ذكرت في تقرير لها على موقعها مؤخرا، وهي تحتفل باليوم العالمي لمحو الأمية، نصا: «تجدر الإشارة إلى أنه قد انتشرت التكنولوجيات الرقمية بسرعة قياسية في كافة مجالات حياتنا، وأصبحت تؤثر بصورة أساسية على طريقة حياتنا وعملنا وتعايشنا مع الآخرين....».
وبعد أن أصبح الحصول على الحقيقة مطلبا صعبا في ظل الاستخدامات المختلفة، وجدت وسائل التواصل الحديثة نفسها في مأزق البحث عن تميز وخصوصية أكثر، تمنحها تفوقا على نحو ما، وهو ما يبدو أنه أكثر صعوبة من تحقيق كيانها كمنتج توصيل إعلامي، وهي نقطة معرضة للانهيار في أية لحظة إذا ما استمرت هذه الوسائل في انتهاج الأسلوب الإعلامي الخاطف الخالي من التأكيد الملتزم بضرورات نقل الخبر وتطويره ومصداقيته.
فهذه الوسائل مهما تفننت في اعتمادها على استثمار سرعة النقل، إلا أنها تفتقد إلى منافسة إحدى أقوى وأفضل ما تملكه وتجيده الصحافة التقليدية المتمثلة في التقارير الإخبارية والبحث عن أسرار الحوادث، غير مكتفية بالعناوين العريضة التي تحتمل التأويل الشخصي للمتلقي، وهو الباب الذي يغلقه هذا النوع من الصحافة بنسبة عالية جدا، وقد بدأت ربما إشارات العودة إلى ذلك التقليد عند أهم منصتين للتواصل الاجتماعي على الإنترنت فيسبوك وتويتر، فقد احتاج مؤسس فيسبوك «مارك زوكربيرج» في فبراير الماضي 2017، إلى نشر مقالة مطولة على حسابه بعنوان «بناء المجتمع العالمي»، ليشرح فيها ما يريد لمتابعيه، وهي عودة صريحة إلى المطولات الصحفية، فيما اضطر موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» إلى التخلي عن فرض عدد الأحرف في التغريدة الواحدة المكونة من 140 حرفا ورفعها إلى 280 حرفا.
من جانب آخر، أكثر دلالة على السأم من انتشار الإشاعات والأخبار المزيفة والهروب من منطقتها والبحث عن نقطة الحقيقة، أظهر استطلاع أجراه معهد (Gallup International Association) لاستطلاعات الرأي العام في يونيو 2017، أن 16% من الأميركيين فقط يثقون في الأخبار التي يتلقونها عبر وسائل التواصل الحديثة، وهو ما يعني أن 84% منهم لا يثقون فيما يتم تناقله عبر تلك الوسائل، بينما ذكر الاستطلاع أن النسبة المئوية قد ارتفعت لصالح تصديق ما تنقله الصحافة التقليدية بشكل ملفت من العام نفسه.
النقطة الملفتة للنظر أن كل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة دون استثناء تتكئ في كثير من منشوراتها على قصاصات أخبار وعناوين الصحف الورقية، وهذه قطعا ليست حالة انتصار للصحافة التقليدية، وإن كانت تبدو كذلك.