عند تفكيك الفترة التاريخية في حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- رحمه الله- والتي تبدأ منذ قدومه على والده في حريملاء عام 1149-بعد رحلته في طلب العلم- وحتى وفاته عام 1206، تبرز لنا ثلاث مراحل مفصلية، في مسيرة الشيخ، على النحو التالي:

1. فترة حريملاء، ومدتها أربع سنوات تقريبًا.

2. فترة العيينة، ومدتها أقل من أربع سنوات.

3.فترة الدرعية، والتي تمتد حتى وفاة الشيخ -رحمه الله-.

وتعتبر فترة حريملاء والممتدة زمنيًا من عام 1149، وحتى 1153، أولى البدايات التي حاول الشيخ من خلالها ممارسة دعوته، والانطلاق بها، لولا ممانعة والده، قاضي حريملاء في ذلك الوقت، الشيخ عبدالوهاب بن سليمان، بسبب وجهة نظره حول أسلوب ابنه وطريقته، وحول بعض آرائه، التي كان الشيخ ينطلق منها في بيان مبادئ دعوته.

وبعد وفاة والده في عام1153، تحررت حركة الشيخ، وتمكن من الانطلاق، والتصاعد بدعوته، وجمع حوله الأنصار والمؤيدين، وفي الوقت ذاته تزايدت أعداد المخالفين والأعداء والمتربصين به وبدعوته، وكان من نتائج الحركة الدائبة والعمل الدعوي للشيخ وأتباعه استجابة الأمير عثمان بن معمر حاكم العيينة للدعوة ومبادئها.

ونتيجة للتضييق وعدم وجود الحامي؛ وبناءً على المعطيات والطموحات، وبعد قراءة الواقع في حريملاء، وجد الشيخ أنه أمام مأزق البقاء المترنح في حريملاء أو الانتقال، كخطوة إستراتيجية للدعوة، حيث إمكانية إيجاد حلف سياسي مع أمير قوي، وبلدة غنية، فكانت العيينة الوجهة المثالية لذلك.

باشر الشيخ محمد بن عبدالوهاب، دعوته في العيينة بثقة أكبر، وتسهيلات أوسع في ظل الدعم السياسي الذي وفرته إمارة العيينة في ذلك الحين.

العيينة أقوى إمارات نجد وأكثرها ثراءً، ستكون مستقرًا آمنًا لبعض الوقت، واستقرارها السياسي سيمكن الشيخ

من السير في دعوته عبر مراحل متصاعدة، وسيتمكن من تكوين قاعدة إعلامية متميزة، تجتاح أرجاء نجد، والحجاز والأحساء، مكونة انقلابات جديدة على مجتمعات الجزيرة العربية، وستتمكن الدعوة من إحداث حركة فكرية وثقافية تتنامى تصاعديًا باتجاهين متعاكسين، أحدهما مؤيد والآخر معارض.

مرحلة العيينة أبرزت شخصية الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بصفته الفاعل الأول، لإصلاح الأوضاع العقدية، وتصحيحها في مجتمع كان قد انساب نحو الخرافات والخزعبلات، وكان الشيخ محمد بن عبدالوهاب موضوعيًا في مرحلته الأولى من التغيير، حيث إنه بدأ برعاية الرابط الأساسي الذي يعتمده المجتمع في إقامة كيانه وانسجامه وتكيفه، ألا وهو الرابط العقدي، وهذا الركن يعتبر من أهم الأسس التي تعتمد في إحداث التغيير.

وهكذا فقد ابتدأ الشيخ بإصلاح الأوضاع الدينية المتردية، وإحداث التغيير في مجتمع العيينة، مما سبب نزاعًا بينه وبين خلايا هذا المجتمع، وخاصة أهل الريادة والعلم منهم، كما حدث له من قبل في مرحلة حريملاء.

الفرصة التي أتيحت للشيخ محمد بن عبدالوهاب في تقبل أمير العيينة عثمان بن محمد بن معمر لمبادئه ومساندته بالسلطة والنفوذ، مكنته من تطبيق هذه المبادئ بالقوة، وإحداث التغيير القسري.

هذا الربيع لم يدم طويلًا للشيخ أو الدعوة، بعد أن بدأ معارضوه العمل على تشويه صورته، وعرقلة جهوده، والتأليب عليه، وبدأت ردود الفعل من قبل العلماء المعارضين لدعوة الشيخ، تشكل ضغوطًا متزايدة، إلا أنها لم تكن بالقوة الكافية لردع الشيخ والأمير عن الاستمرار في مسيرة التغيير والدعوة، كما فشل المعارضون في جر أي قوة سياسية داخل نجد لمواجهة إمارة العيينة ذات المركز الكبير عسكريًا واقتصاديًا، مما دعا الخصوم إلى محاولة تحريض قوة خارجية، يمكن لها الزحف على العيينة، وردع الدعوة وصاحبها ومؤيديها بالقوة العسكرية، أو قوة التأثير السياسي الذي يجعل موازنة المصالح تعلو، وتتخطى أي طموحات، أو مكتسبات، كما تقفز على أي تحالفات، أو معاهدات، فكانت المواجهة مع إمارة الأحساء وأميرها القوي سليمان بن محمد بن عريعر، وبعد أن حسبت إمارة العيينة حسابات المواجهة وموازنات المصالح، مع التهديدات الأحسائية، عرضت على الشيخ الوضع القائم، وأن الصالح العام يفرض على الإمارة التخلي عن مناصرة الشيخ، وإيوائه، بشكل مؤقت لمدة سنة، أو سنتين، لتتمكن الإمارة من تأمين نفسها ضد تهديدات ابن عريعر، ومن ثم معاودة نصرة الشيخ ودعوته.

 الأحداث والمستجدات على الساحة السياسية آنذاك ألجأت الشيخ إلى اتخاذ خطوة سريعة بمغادرة العيينة، إلى وجهة أخرى، خصوصاً بعد فشله في إقناع الأمير عثمان بن معمر بموقف الصمود والتصدي لتهديدات ابن عريعر، وكان من المواقف التي جعلت الشيخ يسرِّع من خطوات مغادرة العيينة، تقوي معارضي الشيخ داخل العيينة بالأحداث الجارية، مما دعا الأمير عثمان بن معمر وشقيق الشيخ، علي بن عبدالوهاب، إلى إقناع الشيخ بالخروج السريع، وتلافي مواجهة غير محمودة العواقب، فطلب الشيخ من أمير العيينة إرساله مع أهله إلى الدرعية، أقرب البلدان إلى العيينة، فما كان من ابن معمر إلا أن أرسله محروساً بفرقة من خيرة فرسان العيينة، إلى وجهته الجديدة.

كان هذا الانتقال بمثابة الانتكاسة لجهد سنوات قام به الشيخ من أجل نشر الدعوة، وعلى الرغم من النجاحات المعقولة والجيدة خصوصاً في مرحلة العيينة، إلا أن تراجع العيينة عن مواصلة دعم الدعوة ونصرتها، أعاد حسابات الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى نقطة الصفر، بغض النظر عن المكاسب على المستوى الشعبي والجماهيري، والذي كان آخذاً بالتنامي والتزايد المطرد.

هذه البدايات المتعثرة، اضطرت الشيخ إلى محاولة استكشاف إستراتيجيات جديدة، تحمي الدعوة والحركة، من الانقسامات الداخلية، والأخطار الخارجية، فشكلت الدعوة بناءً على ذلك نمط تحركها، وأسلوب تعاطيها مع مختلف الأحداث والقضايا، وفق آليات وأدوات متعددة، أسهمت هذه الإخفاقات في صياغتها وتكوينها، وأشير فيما يلي إلى أبرز الآليات والأدوات التي شكلتها إخفاقات البداية:

1. السعي إلى امتلاك القوة

جاهدت الدعوة كثيراً حتى ملكت القوة المناسبة التي مكنتها من حماية نفسها، وتكمن قوة الدعوة في فترة ما بعد التعثرات في الاتكاء على قوة السياسي العسكرية، وعلى سطوة المرجعية الدينية الممزوجة بالخطاب العاطفي.

2. احتكار الحق

والذي قاد الدعوة إلى وقوعها في مأزق الوثوقية، وتوهم الصوابية، في وقت مبكر، فكانت النتيجة الحتمية لذلك الانغلاق الذهني، والاكتفاء الذاتي في مجال الحق والحقيقة، وهو ما شكل لحمة قسرية، حمت الدعوة، ومجتمعها، ومكنت لها النمو المتصاعد بعيدًا عن المنغصات.

3. إعلاء الجماعة وتهميش الفرد

كان أسلوب تحييد الفرد والتفرد في مقابلة الجماعة والإجماع، دعوة غير مباشرة إلى وأد أي محاولة لبث الفرقة، وشق وحدة الصف، وهذا ما يحيل أي رأي فردي إلى فتنة واجبة الدرء، والرد بأي شكل.

4. صرامة الموقف من المخالف

وهو ما قاد الدعوة إلى انتهاج العنف ضد المعارض، سواء كان فكراً أو جماعة أو فرداً، مما خفف من المواجهات المبكرة، مع الدعوة، خصوصاً من الداخل.

5. الدولة (ولي الأمر) مقابل القبيلة

وولي الأمر في الفكر السلفي مشاركة على طريقة النموذجين الأموي والعباسي، وهما النموذجان اللذان تشترك معهما الدعوة في كثير من الخصائص-ليس هذا مجال بحثها-، فظهر مبدأ ولي الأمر مقابل القبيلة وشيخ القبيلة، مما مكن الدعوة من تجيير ولاءات أتباعها القبلية لصالحها.