بعد اتساع الاحتجاجات الإيرانية التي بدأت من مشهد، وانتقالها إلى أكثر من سبعين مدينة إيرانية، واستمرارها حتى الآن، ومشاركة طلبة جامعة طهران؛ يمكن القول إن هذه الانتفاضة تتجه نحو التجذر والاستمرارية، خصوصا أنها ذهبت مباشرة إلى رأس النظام الإيراني علي خامنئي المرشد الأعلى، حيث هتف المتظاهرون في عدة مدن «الموت لخامنئي». وهو ما يشكل بروفة ثانية للانتفاضة الخضراء ضمن سقف مطالب أعلى.
جاءت الانتفاضة الخضراء في عام 2009 على خلفية اتهامات للسلطات الإيرانية بتزوير الانتخابات التي خاضها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لولاية ثانية، ضد منافسين آخرين، أبرزهم مير حسين موسوي ومهدي كروبي. وتمحورت هتافات الانتفاضة حول شعار «أين صوتي»، لكن الانتفاضة قمعت بوحشية في النهاية، ووضع كل من موسوي وكروبي في الإقامة الجبرية حتى الآن.
يبدو قرار قيادات الانتفاضة الخضراء التي تمحورت حول موسوي وكروبي في ذلك الوقت، بقبول الهزيمة، كان صائباً. إذ عاد المتظاهرون إلى بيوتهم بعد شهور من الاحتجاجات، وحملات الاعتقال التي طالت الآلاف، وسقوط عشرات الضحايا. فقد كان توحش نظام الملالي بلا حدود، فهو لم يكتف بقمع المحتجين، بل وفقاً لتقارير منظمات دولية نكل بهم في المعتقلات بأساليب تعذيب وحشية، ليمنعهم من التفكير مرة أخرى بالاحتجاج. حدث ذلك تحت أبصار العالم بالطبع، وفي ظل إدارة الرئيس أوباما الذي قطع عهوداً لنظام الملالي بعدم التدخل لإسقاط النظام، مقابل إنجاز الاتفاق النووي سيئ الصيت. وفقاً لمراسلات أوباما-خامنئي التي تم الكشف عنها مؤخرا. أدرك قادة الحركة الخضراء أنهم وحيدون أمام نظام وحشي، فقبلوا الهزيمة، وأنهى أنصارهم الاحتجاجات. كانت غالبية المحتجين في ذلك الوقت ينتمون إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، وفي المدن الرئيسية، وبشكل أساسي طهران. بعد حوالي عقد من الحركة الخضراء عاد الإيرانيون إلى الشوارع في ظل أوضاع سياسية مختلفة داخلياً، حيث ازداد الفقر، وتردى الوضع الاقتصادي، وازداد قمع الحريات؛ خوفاً من تكرار تلك الانتفاضة، لكن ذلك لم يمنع الفقراء والطبقة العاملة والأطراف سواء على مستوى إيران أو على مستوى المدن نفسها. إذ انطلقت الاحتجاجات من مشهد، حيث تضرر سكانها من الوضع الاقتصادي والفساد، إضافة إلى تدهور العلاقات مع الخليج، وانقطاع الزوار من الشيعة العرب عنها، أو مستوى المدن حيث تشهد أطراف المدن احتجاجات مستمرة. إضافة إلى هذا التغير الداخلي فقد حدثت تغيرات واسعة في المشهد الدولي تعمل لمصلحة المحتجين ضد النظام الإيراني.
ففي البيت الأبيض، ومع اتساع الاحتجاجات وانتقالها من مشهد إلى بقية المدن، غرّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤيداً احتجاجات الإيرانيين، ومهددا نظام الملالي بأن العالم يراقب. أتبع ذلك بتغريدات منوها بالقوة الأميركية، ومحددا أن الولايات المتحدة تراقب عن كثب أي انتهاات ستحدث لحقوق الإنسان. ثم أعلن بوضوح تأييده لهذه الاحتجاجات، واعداً بتأييد عظيم من بلاده للمحتجين في الوقت المناسب. سبقته وتلته بيانات من أركان إدارته في هذا الاتجاه الذي سيستمر في التصعيد مع تجذر الاحتجاجات. ورغم الرد الإيراني، وما قد يعطيه هذا التأييد للسلطات الإيرانية من ذرائع لتخوين المحتجين وربطهم بمؤامرة أميركية صهيونية، موجودة دائما ولا تحتاج إلى ذريعة أساساً، إلا أنه بالتأكيد يعطي دفعاً معنويا وسياسيا للمحتجين لمواصلة تظاهراتهم التي وصلت إلى شعار الموت لخامنئي بعد اندلاعها بقليل. هذا فارق أساسي سيؤثر على نتيجة هذه الاحتجاجات وعلى مسارها، وعلى طريقة تعامل النظام الإيراني معها، حيث بدا مرتبكاً حائراً بين قمعها بشكلٍ مسلحٍ وعارٍ وما قد يترتب على ذلك من نتائج على المستوى الدولي، والوطني بزيادة جرعة تحدي المنتفضين ضد قوات النظام المكلفة بالقمع، وبين خيار مواجهتها سلمياً. وفي الحالتين لم يتوقف انتشار المظاهرات وامتدادها لعموم إيران بما في ذلك مناطق في أذربيجان ذات الغالبية التركية، والتي ينحدر منها المرشد الأعلى خامنئي. ومن الواضح من لهجة ترمب أنه لن يسمح للنظام الإيراني بارتكاب انتهاكات واسعة ضد المنتفضين وهذه الأداة الوحيدة بيد النظام لإسكات المحتجين.
وفي المحيط الخليجي، يختلف التعاطي مع انتفاضة إيران الحالية عن سابقتها، فقد أصبحت العلاقات المتوترة، والمواجهة غير المعلنة بين السعودية على الأقل والنظام الإيراني مكشوفة في اليمن بشكل خاص، مع استمرار السعودية بمواجهة نفوذ نظام إيران وتمدده في الشرق الأوسط؛ في سورية ولبنان والعراق، في ظل قطع للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إضافة إلى عدد آخر من البلدان العربية. هذا سينعكس إيجاباً على تمسك المحتجين بمطالبهم برحيل نظام مكروه من العالم ومن دول الجوار التي ستدعم أي نظام بديل له، وتحسن شروط العلاقات معه بما يحقق مصالح الإيرانيين وشعوب المنطقة.
وفي منطقة الشرق الأوسط، ورغم احتفالات النصر التي يقودها الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني والمخصص للتدخل في شؤون دول المنطقة، فإن الجبهات العديدة المفتوحة والمتسعة التي تخوض فيها إيران حروبها، جعل منها ورطة تستنزفها عسكرياً واقتصاديا ومالياً. هذا بالطبع كان محورا لشعارات عديدة رفعت في المظاهرات المندلعة في إيران الآن؛ «سورية وإيران ستحرران»، و«بدلا من غزة ولبنان التفتوا لحالنا» وغيرها من الشعارات، هذا أيضا سيشعر الشعب الإيراني أنهم ليسوا الوحيدين الذين يحاربون هذا النظام، وأن كل شعوب المنطقة ستقف معهم في ثورتهم هذه للخلاص من هذا النظام الذي نشر الخراب والدمار والقتل في كل بلدان المنطقة وليس في إيران وحدها. بينما في عام 2009 كان ما يزال كثير من العرب معجبين بشعارات النظام الإيراني المعادية لفظيا للإمبريالية والصهيونية، خصوصاً وقد تم تمرير إنشاء هذا النظام لحزب الله وتمكينه من لبنان أولا تحت شعار «الموت لإسرائيل»، لكن الثورة السورية كشفت أنه أداة إيرانية لقتل العرب في بلدانهم كما يحدث على نطاق واسع في سورية وكذلك اليمن.
هذا يجعل ممكنات انتفاضة الشعوب الإيرانية المنتشرة في كل مناطق وأقاليم إيران مفتوحة على مدى واسع بما فيها إسقاط النظام.