فيما يعد الأهل والأصدقاء نعمة من نعم الله -جل في علاه- علينا، إلا أنه قد يعترض الإنسان بعض الأشخاص السلبيين بحكم المكان والزمان والظروف، عندها يتحتم على الشخص إيجاد سبل التملص أو التعايش بذكاء مع هؤلاء الأشخاص ويطلق عليهم السُمّيون، فالشخص السميّ أشبه بذلك الطفل المتنمر والمؤذي في المدرسة، ويعود مسمى سميّ (Toxic) إما إلى ألسنتهم وملافظهم المسمومة والجارحة، أو تصرفاتهم غير المنطقية.
في مجمل القول نستطيع أن نـحصر أفعالهم ضمن ثلاثة أنواع من الإساءة (abuse)، حيث تصنف إلى إساءة نفسية أو لفظية أو جسدية. في هذا المقال سأقوم بإلقاء الضوء على أنواع الإساءات المختلفة وطرق تفاديها أو التعايش مع من يمارسها تجاهنا أو تجاه شخص عزيز علينا.
1
الإساءة النفسية أو العاطفية هي الإساءة التي تؤلم نفسيا لا جسديا، فآثارها أقوى من الندوب والحروق، لأن الآلام الجسدية قد تنتهي، ولكن الشروخ النفسية لا تندثر بمرور الزمن، قد تكون الإساءة النفسية صادرة عن أشخاص على معرفة وثيقة بك، لذلك هم وحدهم يعرفون مفاتيح السيطرة عليك، وطبخك على نار هادئة، فقد يكون الشخص فردا من أفراد عائلتك أو رئيسك في العمل أو زميل دراسة، والحل يبدأ بمعرفة السيناريوهات وأنماط الإساءة الصادرة عنهم وإستراتيجياتهم المتبعة في تعاملاتهم مع الناس، فعلى الأغلب ما يفعلونه معك سيكون مشابها إلى حد كبير لما يفعلونه بالآخرين. هنالك أشخاص مقربون منا قد يجعلوننا نشعر بالأسى الشديد دون مبرر، ويكون ذلك بأن يعلق الشخص عليك آمالا وتطلعات ويطلب منك فعل أشياء أفلاطونية، كأن يطلب منك إعطاءه الاهتمام المطلق وتكريس الوقت اللامتناهي، فإن لم تفعل ذلك سيندرج اسمك ضمن القائمة السوداء، وفي حال فعلت ما يطلب فلن يكون ذلك كافيا أو غير لائق بالمستوى الذي يطمحون له، في هذا النمط تشعر الضحية غالبا باستنزاف الطاقات، وبعثرة الجهود المبذولة في سبيل الارتقاء ثم إرضاء المسيء الذي يكتفي بتوجيه النظرات الحارقة والكفيلة بإيصال تقييمه للأداء.
2
هناك شكل آخر وهو الإساءة اللفظية، حيث تكون على وجهين (أساليب مكشوفة ومبطنة)، فما كان مكشوفا منها لا يخرج عن إطلاق الصفات المهينة التي لا تصل إلى حد الشتم مثل «كسول، بدين، عويل، ثرثار»، حيث يقوم المسيء بانتقاء الصفات التي تبغضها الضحية بتأنٍّ، كما أن المتمثلة أي كلام يأخذ شكل الاتهام أو اللوم أو العتاب المبالغ فيه أو السخرية وإطلاق النكات على الشخص أمام الناس يدرج تحت مسمى الإساءة اللفظية. بالنسبة إلى الأساليب المبطنة فتعد الأصعب نظرا لصعوبة اكتشافها، لأن الشخص المسيء يقوم بدس السم في العسل في مواقف عديدة على هيئة إسداء النصائح، وإعطاء الحلول وتحليل المواقف، وتقديم إثباتات خاطئة وانتقاد الغير، وفي حال عدم تنفيذ رغباته واتباع آرائه سيقوم بتثبيط الضحية بجملة «أنا لدي خبرة وأعرف أكثر منك»، أو «أنا أريد مصلحتك». ومن الجدير بالذكر كشف إستراتيجياتهم وخططهم غير المبتكرة، فبعضهم يتعمدون إحداث الفوضى المستمرة (الجلبة) عن طريق إقحام أنفسهم في نقاشات مدوية مع الضحية، وإثارة النزاعات والتأليب بين الأشخاص بغية لفت الانتباه لأنفسهم، ويطلق علميا على هذا النوع من الشخصيات اسم «الشخصية الهستيرية» (histrionic)، وبالعامية نجوم الدراما. في حين يقوم البعض الآخر بردود أفعال مباغتة وتقلبات مزاجية مفاجئة كأن يحب شيئا قمت به بالأمس ثم يكرهه وينفر منه اليوم التالي، هذه الحالة تجعل الضحية على حافة الانهيار العصبي، لأن الشخص يكون في حالة تأهب عالية على مدار الساعة. كما يلجأ البعض إلى اعتماد أسلوب المصادرة العاطفية، وتتمثل في إنكار احتياج نفسي أو حاجة ملحة لدى الشخص، كأن تقول الضحية «أنا بحاجة إلى النوم»، بينما المسيء يقوم بمشاهدة التلفاز بصوت مرتفع جدا، فيرد المسيء عليه «نَم، وهل مسكتك؟» فيما تبرز سياسة الإنكار كأن ينكر المسيء حادثة ما أمام طرف ثالث، كأن يقول «لم يحدث هذا الكلام»، أو «لم أقل ذلك»، أو «لا أذكر» أو «لقد فهمني بطريقة خاطئة هو حساس»، غالبا ما يحاول المسيء أن يسيطر على عقل الشخص وثقته في نفسه عن طريق السيطرة على ذاكرته والتمكن منها، لكي يتخلل الشك في نفس الشخص ونفوس الناس المحيطين به. وكما هو الحال الدراما تتخذ بعض الشخصيات أسلوب العلاج بالصمت (silence treatment)، حيث يتبع هذا العلاج في حالة عدم الرضا عن الضحية مع توجيه النظرات النارية بين الفينة والأخرى.
قد تتطور الأمور إلى حد السيطرة التامة على الضحية بجعل الشخص يتصرف أو يتكلم بطريقة معينة، وذلك عن طريق العزف على مكامن الضعف لدى الشخص، كإثارة الإحساس بالذنب، أو تعاطفه أو الخوف أو برمي كرت العادات والتقاليد والعيب. من الطرق الأخرى التي يعتمدها المسيء -تصغير الأمور-، قد لا ينكر المسيء الحادثة، لكنه يقوم بالتقليل من مشاعر الشخص تجاه الحادثة، كأن يقول «أنت حساس جدا»، أو «أنت مدلل»، أو «أنت تبالغ»، أو «أحقا تأثرت بهذا الكلام؟». عندها يشعر الإنسان بأنه هو سبب المشكلة.
أعلم أنني أطلت شرح الأنماط الشخصية للمسيئين بغية معرفة سبل الوقاية أو العلاج منهم، فالحل برأيي يتمحور حول عدة خطوات وهي، تقييم الموقف وتحديد المشاعر، فيسأل الشخص نفسه هل أتعرض للإساءة الآن أو هل ستنتهك خصوصيتي؟ من ثم يقَوِّم ماهية العلاقة القائمة بينه وبين المسيء، فإن كان شخصا بعيدا فالحد من رؤيته والتعامل برسمية قد يكون الحل، وفي حال كان الشخص قريبا جدا فيفضل أن يقوم الشخص الذي يتعرض للإساءة بتقييم نقاط ضعفه «كالمجاملة أو الطيبة في غير موضعها»، ومن ثم القيام بأخذ موقف حازم وسلمي في نفس الوقت، ويفضل إتقان لغة العيون، ففيها قوة تسكت الأفواه، كما تعد معرفة إستراتيجية، ومن أهم المقومات لإيقاف دورة الإساءة والابتعاد عن النقاشات المطولة مع الطرف المسيء، أن الأهم من الأخذ بالإجراءات هو معرفة الأسباب، فقد يكّون الشخص يطّلع ويشرك الآخرين على خصوصياته ليكسب ودّهم، أو ليجذبهم إلى حديثه، وهذا ما يشعر الكثير ممن حولنا بأحقية إعطاء النصائح وتوجيه الأوامر. فانتقاء الأشخاص الذين نثق بهم وبآرائهم يعد أهم خطوة لتجنب جميع ما سبق.
ختاما، إن من يتعرض إلى هذه الدوامة، وينشغل بالتفكير فيها، يعد من أطيب القلوب وأنقاها، فلا تفقدوا هذه الطيبة التي أصبحت عملة نادرة في هذا الزمن، جل ما عليكم فعله هو الحرص والتسامح.