المشرع السعودي، إدراكا منه بخطورة الانفلات الإفتائي على السعودية والعالم الإسلامي كافة، أصدر أمرا ملكيا كريما، الرقم 13876/ ب التاريخ 2/ 9 / 1431، في عهد المغفور له -بإذن الله- الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء ومن يؤذن لهم فقط. الأمر خطير بالفعل، وجاء في وقت حساس، فبعض الذين لا علم لهم بالشريعة الإسلامية، ولديهم شهرة، استغلّوا الموضوع كتجارة أو حزبية مذهبية أو ورقة يستغلها كيفما شاء وأراد، وبعضهم خطر على الأمن القومي السعودي، فهو يستخدم سلطته هذه للتحريض ضد الدولة بطريقة غير مباشرة، تخاطب اللاوعي بالتأطير وغيره، لذا، فإن الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حينئذ، اتخذ هذا القرار علما منه بأهميته.

الأمر الملكي منح أيضا استثناءً، ويكون ذلك للفتاوى الخاصة الفردية «غير المعلنة» في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، والممارسات الإفتائية في «تويتر» ونحوه وللصحف التي تخرج عن هذا الإطار بالطبع. ركز الأمر الملكي الكريم نصا على نقاط أستعرضها معكم وأحللها:

أولا: «قد تابعنا هذا الأمر بكل اهتمام، ورصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم، حفظا للدين، وهو أعز ما نملك، ورعاية لوحدة الكلمة، وحسما لمادة الشر التي إن لم ندرك خطورتها عادت بالمزيد، ولا أضر على البلاد والعباد من التجرؤ على الكتاب والسنة، وذلك بانتحال صفة أهل العلم، والتصدر للفتوى، ودين الله ليس محلا للتباهي، ومطامع الدنيا، بتجاوزات وتكلفات لا تخفى مقاصدها». وهنا لغة ملكية صريحة أن الفتوى ليست محلا للاستغلال، أيّا تكن ومن أيّ كان.

ثانيا: «نفرق بين مسائل الدين التي تكون بين المرء وربه في عبادته ومعاملته، ليعمل فيها -في خاصة نفسه- بما يدين الله به، دون إثارة أو تشويش، وبين الشأن العام مما لا يسعه الخوض فيه بما يخالف ما تم حسمه بآلته الشرعية التي تستند إلى أقوال أهل العلم بالدليل والتعليل. وهنا، نستذكر قاعدة الشرع الحنيف «في أنه لا عصمة لأحد إلا لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغه عن ربه، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا قول نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم». لا تقديس للأشخاص ها هنا، وكل مفتٍ أو متعالم يؤخذ منه أو يرد.

ثالثا: «ترك بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- بعض آرائهم الفقهية، من أجل اجتماع الكلمة، وأن الخلاف شر وفتنة». هناك مصلحة عامة تجمع كلمتنا ووحدتنا، وهذا دأب أجدادنا في اعتباراتهم، ومقاصد الشريعة الإسلامية لا يدركها كل شخص إلا الراسخون في العلم.

رابعا: «للاحتساب الصادق جادة يعلمها الجميع، خاصة أن الذمة تبرأ برفع محل الاحتساب إلى جهته المختصة». الاحتساب منظم وليس عملية فوضوية، يستطيع أي مواطن كان أو مقيم الرفع بعريضته إلى الجهات المختصة أو حتى مجلس الشورى

وموقعهم الإلكتروني يقدم لك هذه الخدمة في يسر وسهولة.

خامسا: «نما إلى علمنا دخول بعض الخطباء في تناول موضوعات تخالف التعليمات الشرعية المُبلّغة لهم عن طريق مراجعهم، إذ منبر الجمعة للإرشاد والتوجيه الديني والاجتماعي بما ينفع الناس، لا بما يُلبس عليهم دينهم، ويستثيرهم، في قضايا لا تعالج عن طريق خطب الجمعة». الخطيب ليس مفتيا يا سادة، والفتيا تتجاوز مدى علمه

وتخصصه، فالإرشاد والتوجيه ليس إفتاء، الفرق أن التوجيه والإرشاد ليّن سلس، وطريقه واضح، ومناطه مناط تعليم وحسبة في أمور متفق عليها -الثوابت- وليست في أمور مختلف عليها، وليس مناطه مناط حكم شرعي يتطلب تحليلا للمسألة والأخذ بمقتضى الحال، ويكون في نازلة من النوازل.

سادسا: «كل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرّض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائنا من كان، فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار، وقد زودنا الجهات ذات العلاقة بنسخ من أمرنا هذا لاعتماده وتنفيذه ـ كل فيما يخصه».

هنا، أهم جزء في الأمر الملكي الكريم، كائنا من كان سيحاسب، من أفتى بغير رخصة. ربما على مجلس الشورى الموقر دراسة مشروع قانون للعقوبات لمن يفتي بدون إذن هيئة كبار العلماء، أو ربما لائحة، أو حتى مادة تضاف إلى قانون موضوع، لأنه لن يتحقق الردع العام والخاص بدون تحديد عقوبات رادعة حازمة، والنيابة العامة لن تستطيع التحرك بدون قانون، قانون الحكم الأساسي ذكر في المادة الثامنة والثلاثين نصا «العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي، أو نص نظامي، ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي».

لذا، يجب تجريم الفتيا بعقوبات واضحة وصريحة لردع الفتاوى بكل أشكالها، خصوصا التويترية!.