يَفترِضُ بعض المهتمين بالحراكين الاجتماعي والثقافي في البلد موت الصحوة أو تلاشيها، وهذا افتراض متعجل، فالصحوة فكرة وحركة اجتماعية ذات صبغة سياسية تتستر بزي إسلامي، وطابع ديني ظاهره الدعوة إلى الله وباطنه السعي نحو امتلاك السلطة بأي طريقة كانت حتى ولو بالانضواء تحت لواء السلطة القائمة ذاتها، وغالب الحركات المتصفة بهذا الوصف لها القدرة على التلون والتكيف بشكل مذهل، ولها خاصية حيوية لافتة، وهي البقاء تحت أي ظرف أو ضغط، كما أن من الخصائص المهمة لهذه الحركات والتي تساعدها على البقاء أن عملهم وأهدافهم ذات أمد طويل، فلا يؤثر فيها الإيقاف أو المنع أو الحظر أوغيرها من الإجراءات.
وحالة الخفوت أو الكمون أو الانحناء أمام العاصفة -كما يعبر الصحويون في أدبياتهم غير المتداولة- هي تقوية للحركة في فترة لاحقة، حيث يشكل هذا التوقف، فترة مراجعة قسرية على مستوى الغايات والوسائل والأهداف.
وأعود إلى الفرضية في أول المقال، والتي قد أتجرأ وأقول عنها: إنها توهمٌ لا أكثر، فالصحوة كل ما تحتاجه الآن ظرف اقتصادي أو سياسي مهتز لتعود وتطل برأسها من جديد، كما أطلت برأسها بعد ضربة موجعة من السلطات الأمنية في السعودية صيف 1994، وتزامنت هذه الإطلالة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتتعقد الأمور أكثر، ومع ذلك استطاعت الاستحواذ على نصيب من الساحة الاجتماعية والثقافية والتطوعية والخيرية في البلد، وهذا لا يعد المثال الوحيد، بل هناك أمثلة متعددة تدل على أن من الصعوبة بمكان الجزم بتلاشي الصحوة.
والصحوة السعودية أو السرورية، ما هي إلا تيارٌ صغيرٌ داخل تيار الصحوة الكبير في العالم الإسلامي، والذي تحرر من أحد اختباءاته بعد نكسة 1967، ولا نخطئ إن أطلقنا السرورية على تيار الصحوة في السعودية، لأنه كان المحرك الرئيس للصحوة داخل السعودية، أما باقي الجماعات والحركات في الفسيفساء الإسلامية السعودية، فلا أشك أنها كانت استجابة لمؤثرات تيار الصحوة العام، والذي تُشكل فيه جماعة الإخوان المصرية المحرك الأبرز عبر فروعها الممتدة، والتي تعرف بالتنظيم العالمي للإخوان، وقد يعترض معترض ويقول: إن السرورية خرجت من عباءة الإخوان المسلمين في الأساس، وهذا حق، إلا أن امتزاج الحركية الإخوانية بالعقائدية السلفية القائمة على مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ شكلت توجهًا جديدًا يختلف عن توجه بقية الصحوات في بلدان العالم الإسلامي من جهة العقيدة والتعاطي مع كثير من المسائل الفقهية والنوازل، مما جعل السرورية أكثر فاعلية في الوسط السعودي، وبالتالي هضمت جميع الحركيات في الطيف الديني السعودي لتُنتِج نموذجًا سعوديًا مغايرًا عن تيار الصحوة العام الذي اجتاح العالم الإسلامي بعد النكسة وارتكاس النظريتين الشيوعية والقومية.
وللصحوة أو السرورية الصوت الأبرز وسط الضجيج الإسلام السياسي في المملكة، حكايات رُوي بعضها، وبعضها ما يزال مطويًا، وفي التالي من المقال سأتناول حكاية البداية عبر ومضات سريعة:
يعود الفضل في تأسيس التيار الصحوي السعودي الذي سيعرف لاحقًا بالسرورية، للشيخ السوري محمد سرور بن نايف زين العابدين، والذي وصل إلى السعودية عام 1965، شابًا يافعًا لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، فدرَّس أولًا في معهد حائل العلمي لمدة سنة، واستطاع تكوين خلية صغيرة داخله، ثم انتقل إلى البكيرية في العام التالي، وعمل في معهدها لمدة عام واحد، واستطاع تأسيس خلية أخرى هناك، وفي عام 1967 انتقل إلى مدينة بريدة ودرَّس في معهدها العلمي لمدة خمس سنوات، وقبل انتقاله إلى بريدة كان هناك تخلقٌ خافتٌ لخلية سرورية في أبها عبر أحد المدرسين السوريين -والذي كان يلتقي بسرور بانتظام- وكذلك قام أحد تلاميذ سرور في حائل بتأسيس عمل حركي في الرياض قبيل الانتقال الأهم والأبرز إلى بريدة.
وفي بدايات عام 1972 انتقل إلى الأحساء لمدة عامين، ثم أُبعد عن السعودية تمامًا في نهاية عام 1973، وانتقل إلى الكويت، ومكث فيها قريبًا من إحدى عشرة سنة، حتى عام 1984، والذي انتقل فيه إلى بريطانيا كمستثمر وليس لاجئا سياسيا كما يُظن.
بدأ سرور بالعمل في بريدة على شقين الأول: البناء والتأسيس، والثاني: الالتصاق بالمشايخ السلفيين والأخذ عنهم، ولم يتمكن محمد سرور من التعرف الحقيقي على الدعوة السلفية، إلا في بريدة، حيث تشير الأخبار أن الرجل كان يوصي بكتابات معينة بعيدة كل البعد عن التوجه السلفي السعودي، فعلى سبيل المثال كان يوصي تلاميذه بكتاب عقيدة المؤمن لمحمد الغزالي، وهو الذي لم يكن مرضيًا عنه من قبل المشايخ في السعودية في ذلك الوقت.
وتشير بعض الفلتات المستغربة التي اقتنصها بعض تلامذته، أنه كان يُخلِّط في أسماء كتب هي أصول كبرى في العملية التثقيفية لدى جماعة الإخوان، مما يشير إلى خلفية معينة في وظيفة محمد سرور في الجماعة، حيث إنه من المعلوم لدى المراقب للحركات والجماعات الإسلامية على مختلف توجهاتها أنها تقوم بعملية فرز لأفرادها والمنتمين إليها بحسب القدرات والمهارات المختلفة عقليًا وجسديًا، وهذا الأمر يدعنا أمام عدة خيارات لتحليل مكانة محمد سرور في الجماعة، والتي قد يكون أحدها أنه من الأفراد الذين كانوا معنيين أو مكلفين بالنواحي التنظيمية والميدانية أكثر من كونه مكلفًا بنواح قيادية أو علمية، وهذا يشير بوضوح إلى أنه فلتة دهمت بشرها المسلمين.
وكان سرور يقوم بعمل غريب أثناء تواجده في بريدة، وهو كتابة التقارير عن بعض الشباب غض الإهاب الذين لم يتجاوزوا المرحلة الثانوية من أبناء بريدة، والذين كانوا مسحورين بعبد الناصر وآمال الوحدة والعروبة، وكان يسلم تلك التقارير إلى الجهات الحكومية حسب مصلحته، مرة لأمير المنطقة ومرة للشرطة ومرة للاستخبارات وهكذا، وهذا الأمر أثار حفيظة الرجل الذكي مناع القطان– من جهة تواصل سرور مع السلطة لا غير- فضايق سرور حتى أخرجه إلى الأحساء، وهناك في الأحساء زرع خلاياه الأخيرة في السعودية، والتي أثمرت أيما إثمار حتى إن أحد تلامذته من الأحساء كان الذراع الأقوى في تأسيس المنتدى الإسلامي في لندن الذي تصدر منه مجلة البيان.
وفي مرحلة الكويت تزامل مع المنظر الإخواني الأبرز العراقي عبدالمنعم بن صالح العلي العزي أو ما يعرف حركيًا بمحمد أحمد الراشد، وأكاد أجزم أن جُلَّ ما كتبه الراشد كان موجهًا للحركيين في السعودية، بسبب سرور، وهذا يتضح بجلاء لمن قرأ سلسلة رسائل العين أو المسار أوغيرها من كتب الراشد، والذي كان ضيفًا شبه دائم في مخيمات أبها والطائف الإخوانية والسرورية.
ومن الطريف أن من أوائل المنشورات التي تم تداولها بين أفراد التنظيم قبيل منتصف السبعينات كان بعنوان: (ومتى كان للإخوان عند الطغاة عهد) في وقت لم تتبلور بعد كينونة التنظيم، وكان تعليقًا على أحد خطابات الملك فيصل -طيب الله ثراه-.
من كَتَب المنشور، ومن نَقله بين الخلايا في أنحاء المملكة، هم الآن ملء السمع والبصر في المشهد السعودي، وكان المنشور مذيلًا بعبارة: «اقرأ وأحرق».
أتمنى من الله تعالى أن يستمر التماسك الاقتصادي والسياسي لوطننا حتى لا تكون لهم ثغرة، يطلون منها برؤوسهم مرة أخرى، فما زالت ذيولهم وجذورهم حية وقوية في مفاصل الدولة والمجتمع.