يختلف تصنيف الطبقة الوسطى بين المجتمعات البشرية باختلاف الثقافات واختلاف الدول في معاييرها الاجتماعية ودرجة نموها الاقتصادي، إلا أن الجميع يتفق على ما تشكله تلك الطبقة من أهمية جوهرية في تحقيق التوازن الاجتماعي المطلوب ودرجة الأمان الاقتصادي والسياسي المأمولة، والتي من خلالها يستطيع المجتمع إنجاز تطلعاته المستهدفة وبناء مستقبله الوطني، وعلى الرغم من أن الطبقة الوسطى هي الطبقة التي تتوسط الهرم الاجتماعي اقتصاديا واجتماعيا ما بين الطبقة العاملة والطبقة الغنية، إلا أنها هي المحرك الفعلي لعجلة الإنتاج الوطني بما تقدمه من أعمال مهنية مختلفة وما تقوم به من مهام ومسؤوليات في إدارة المنظومة الوطنية بكافة ما تتضمنه من قطاعات مختلفة، وذلك يشمل مختلف المهنيين من المعلمين وأساتذة الجامعات والمحامين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال، ويُستثنى من ذلك التجار والصناعيون وأصحاب الدخول العالية من رجال الأعمال، كما يُستبعد النافذون من ذوي المراكز القيادية العليا، سواء في الحكومة أو القطاع الخاص، ليبقى بعد ذلك هؤلاء العاملون برواتب وأجور تكاد تكون ثابتة وبعيدة عن الترف والبذخ، وكلما ازداد حجم هذه الطبقة كان ذلك مؤشرا على نجاح خطط التنمية ومشاريعها وبرامجها المختلفة، وبما تشمله من قطاعات تنموية مختلفة ذات صلة بالعمل والتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية وما يتصل بها من قطاعات اقتصادية مختلفة، ولذلك فإن مقياس الإنجاز التنموي هو، ذروة النجاح والتميز لتلك الطبقة الوسطى، والذي يترجم بأن يكون الصعود إليها (الطبقة الوسطى) ميسرا وسهلا في إطار نظام سياسي واقتصادي واجتماعي داعم لها، ويسهم في إعدادها وتمكينها عبر مشروعات تنموية وبرامج تعزز فرص التعليم الجيد والوظائف المتاحة المتنوعة، وبما يحقق مستوى مُرضيا من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي بصفة مستدامة، وفي المقابل فإن الصعود من الطبقة الوسطى إلى الغنية لفئات محددة عبر الثراء السريع غير القائم على أسس اقتصادية صحيحة هو مؤشر لخلل قانوني ونظام اقتصادي مضطرب، ويحتاج إلى تطوير وإعادة هيكلة لقاعدته.
ومن هذا المنطلق كانت الطبقة الوسطى هي الميزان الحقيقي والمؤشر الفعلي لواقع المجتمع التنموي بصفة العموم، لأن التسرب منها، سواء إلى الطبقة العليا (الغنية) أو الطبقة الدنيا (الكادحة)، يعتبر مشكلة كبيرة وخللا واضحا في المسار التنموي المستهدف الذي يُفترض أنه يترجم الخطط التنموية إلى برامج ومشاريع تسهم في تأهيل وتمكين كافة أفراد تلك الطبقة الوسطى وما دونها، وبما يسمح بسهولة الصعود إليها وليس التسرب منها، خاصة إلى الطبقة الأدنى، ويكون التطلع نحو انحسار الطبقة الفقيرة وتضييق حجمها المجتمعي، وبذلك نكون قد أثبتنا نجاح تنفيذنا لخططنا التنموية الطموحة، وتمكننا من تحقيق ما تستهدفه من تطلعات ورؤى متفائلة لتنمية اجتماعية واقتصادية شاملة.
ومما تؤكده التجارب والدراسات العلمية والحقائق أن هنالك من المؤشرات والدلائل الملموسة التي تُنذرنا كمجتمعات بوجود خلل وانـحراف في المسار التنموي المستهدف، والمبني وفق خطط طموحة تصب في خدمة التنمية الوطنية الشاملة، وبما يحافظ على استقرار الطبقة الوسطى وأمنها، وبما يعزز من قوتها وتمكُّنها، بل وزيادة نسبتها، بما تضيفه إليها من شرائح من الطبقة الدنيا بالتعليم والتدريب والتأهيل المختلف، والذي ينعكس بدوره على نمو وازدهار اقتصادي وتوازن اجتماعي وأمن وطني شامل، لأن تلك الطبقة (الطبقة الوسطى) هي الحاضنة للنظام الاقتصادي وأداته المنتجة وقلبه المجتمعي، وهي المحركة للأعمال والإبداع والابتكار، وباحتضانها ورعايتها نـحصد ثمار خطط تنموية وضُعت وسياسات تُنفذ وفق إجراءات وبرامج تخدم مستهدفاتنا وتطلعاتنا.
وإذا ما رصدنا بعض مؤشراتنا التنموية الوطنية التي تعكس مدى مواءمة سياساتنا التنموية وما يتعلق بها من إجراءات، مع ما تخطه وثائق خططنا التنموية لفترات متتالية، وما تستهدفه من بنود تُوجه نحو الاهتمام بتنمية مواردنا البشرية بالتعليم والتدريب والتأهيل، بالإضافة إلى التركيز على تنوع قاعدتنا الاقتصادية باستثمار مواردنا المختلفة، والحد من الاعتماد على البترول كمصدر أساس لإنتاجنا الوطني، وكممول رئيس لميزانيتنا الوطنية ومشاريعنا المختلفة، وبما يتح بدوره فرص عمل ووظائف متنوعة للمواطنين تتيح لهم المساهمة في مسيرة البناء والنماء الشامل، وبما يخدم نمونا الاقتصادي والاجتماعي، نجد أن الإحصاءات مخيبة للآمال، ولا تخدم نتائجها تطلعاتنا ومخططاتنا التنموية بأي حال من الأحوال، وبالاستناد إلى بيانات الهيئة العامة للإحصاء في أحدث نشراتها 2017 نجد أن هناك ارتفاعا في معدل بطالة المواطنين والذي سجل معدل (12.8%)، وذلك بعدد(736.321) مواطنا في الربع الثاني من عام 2017، في حين سجل الباحثون عن عمل من المواطنين (1.075.933) مواطنا، ومن جهة أخرى فإن إجمالي المشتغلين في الدولة بلغوا (13.841.158) فردا، ولا يشكل المواطنون من ذلك العدد سوى (3.052.449) مواطنا ومواطنة، بينما يشتغل في سوق العمل الوطني (10.788.709) أجانب.
أما إنتاجنا الوطني وهيكلنا الاقتصادي المستهدف بالتنوع وزيادة الصادرات غير النفطية والتقليل من الواردات وبما يخدم أمننا الاقتصادي ويحفظ استقراره من جهة، ويتيح فرص عمل من جهة أخرى، فإن الإحصاءات تشير إلى أنه ما زال يحتاج مزيدا من الجهود وعددا من السياسات والبرامج الداعمة للاستثمار في مواردنا المختلفة بهدف تنويع قاعدتنا الاقتصادية من جهة، ونمو صادراتنا منها من جهة أخرى، وبما يحقق بدوره الحد من الواردات المختلفة، وبذلك يمكننا تحقيق نمو فعلي في حجم الإنتاج المحلي غير النفطي، بالإضافة إلى توفير فرص عمل جديدة للمواطنين بمختلف مؤهلاتهم، وذلك يتطلب تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في مواردنا المختلفة، والالتزام برؤيتنا الإستراتيجية وتوجهاتها الوطنية كشريك في التنمية وفاعل فيها، وعليه التساؤل المطروح لماذا تلك الفجوة بين مستهدفاتنا الوطنية ورؤانا الإستراتيجية من جهة، ومنجزاتنا الوطنية من جهة أخرى؟! لماذا لا تتوافق سياسات وإجراءات قطاعاتنا المختلفة مع محتوى خططنا الإستراتيجية؟! لماذا نفتقد المواءمة والاتساق بين سياسات وإجراءات القطاعات المختلفة فيما بينها، بما يكمل بعضها بعضا، ويحقق أهدافا وطنية مشتركة؟!
إن غياب التنسيق والمواءمة في السياسات والبرامج بين قطاعات الدولة المختلفة يعرقل مسيرة التنمية ويحول دون تحقيق أهدافها المرجوة، بينما التنسيق والتوافق في السياسات بين القطاعات ذات الصلة وما يتبعها من إجراءات وبرامج، يخدم تحقيق مضمون خطط التنمية، ويبلور رؤانا وأهدافنا الإستراتيجية إلى منجزات ملموسة، وذلك يتطلب أن تنطلق مستهدفات القطاعات المختلفة من واقع خطة وطنية شاملة ورؤية وطنية تُجند لها جهود تفاعلية ملائمة من كافة القطاعات في آنٍ واحد، والذي يقتضي التواصل والتنسيق بين القطاعات المختلفة، بما يحقق تكاملها في تحقيق المستهدفات المرجوة والرؤية الطموحة.
ومما لا شك فيه أن جميع تلك المؤشرات التنموية التي تمت الإشارة إليها، والتي ترتبط مباشرة بالطبقة الوسطى باعتبارها معيار التوازن المجتمعي والطبقة المنتجة الفاعلة، وإلى جانب غيرها من المؤشرات التي تتصل بالتضخم وارتفاع مستوى المعيشة مع محدودية الدخل وانخفاضه في كثير من القطاعات، وندرة الوظائف المتاحة للمواطنين، وما يصاحبه من ارتفاع في معدل النمو السكاني (2.52%)، ستكون لها نتائجها السلبية على واقع الطبقة الوسطى وانـحسارها لصالح الطبقة المتدنية الدخل، وفي ذلك مؤشر لخلل تنموي سينعكس أثره على مشكلات اجتماعية مختلفة، وركود اقتصادي مؤثر، وما يترتب على ذلك من تحديات أمنية وغيرها.