السعودة هدف نبيل وضعته الدولة، وسعت جاهدة إلى تنفيذه عبر وسائل وطرق متعددة، وحاولت الوزارات والأجهزة المختصة إنزاله على أرض الواقع، فعقدت لذلك المؤتمرات وورش العمل، وتعاقب بسببه كثير من الوزراء على وزارة العمل، لكن للأسف لم يجد ذلك الهدف طريقه إلى التحقق، رغم اتفاق الجميع على أنه هدف يستمد أهميته من جوانب كثيرة. فهو لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط، بل إن هناك جانبا اجتماعيا لا يقل عنه أهمية. ورغم أن الذرائع التي يتحجج بها بعض رجال الأعمال ربما لا تخلو من الوجاهة، إلا أن المقاصد السامية والمصالح العليا للدولة والمجتمع، تتطلب أن يتم التركيز على إحلال شبابنا في كثير من الوظائف التي يشغلها الوافدون، وعندما يتعلق بمصالح الوطن ومستقبله تتلاشى المصالح الذاتية والأهداف الخاصة.
هناك مصطلحات لا بد من تحريرها بدءا. فالسعودة لا تعني مجرد إحلال السعوديين محل غيرهم، بل ترتبط في الأساس بتأهيل الشباب وتسليحه بما يكفي من المعارف والخبرات ليصبح أكثر كفاءة وقدرة على المنافسة، وهي فعل يتجاوز حدود وزارة العمل وحدها، ولا بد من اشتراك القطاع الخاص في ذلك.
ومع أن الدولة حاولت في مرات عدة تحفيز القطاع الخاص على استيعاب السعوديين، عبر التكفل بدفع جزء من رواتبهم، إلا أن ذلك لم يكن كافيا، فلا بد من وجود تشريعات تضمن حقوق رجال الأعمال الذين يبذلون كثيرا من الجهد والمال لتدريب هؤلاء الشباب وإكسابهم المهارات المطلوبة، ومع ذلك لا يضمنون استمرارهم بعد انتهاء الفترات التدريبية، ولا يملكون منعهم من الالتحاق بالعمل في أماكن أخرى، سعيا وراء زيادة قد تكون زهيدة في كثير من الأحوال.
كذلك من الضرورة بمكان تغيير مناهج الدراسة في بعض جامعاتنا، وتقليل التركيز على الدراسات النظرية التي تفاقم الأزمة عبر تخريج طلاب قضوا عددا من السنوات في دراسة مواد لا علاقة لها بسوق العمل. ورغم الاتفاق على أن العلم يبقى قيمة سامية في حد ذاته، بغض النظر عن ارتباطه بالعمل، إلا أن الواقع الذي نعيشه، والظروف المحيطة ببلادنا التي تتأثر كبقية دول العالم بما يمر به الاقتصاد العالمي، تقتضي أن يكون التركيز على تدريس المواد التي يحتاجها سوق العمل بصورة فعلية، وتتيح لأبنائنا الخريجين الحصول على فرصة العمل.
ذات مرة، ساقتني الظروف إلى أحد المستشفيات الكبرى بجدة، فلفت نظري وجود كثير من السعوديين يعملون في وظائف الأمن والاستقبال، مما شرح صدري لوجود هؤلاء الشباب المكافح، لكن للأسف عندما بحثت عن مزيد منهم داخل المستشفى، لم أجدهم ضمن أطقم الأطباء الاستشاريين والاختصاصيين والفنيين والممرضين وأخصائيي المختبر والأشعة، إلا بأعداد ضئيلة. وهنا يبرز سؤال عن السبب الذي يمنع جامعاتنا من الاهتمام بزيادة عدد خريجيها من الكليات العلمية، وعندما عدت وبحثت في إحصاءات وزارة الصحة، فوجئت بإحصاءات مدهشة، تؤكد أن عدد الأطباء الموجودين في المملكة يقارب 82 ألف طبيب، يعملون في كل القطاعات الصحية، سواء التابعة للوزارة أو القطاع الخاص، يبلغ عدد السعوديين منهم 19500 طبيب، أي بنسبة 23.5%.
وتزداد الدهشة عندما نعلم أن عدد الطلاب السعوديين في الكليات الطبية لا يتجاوز 17 ألف طالب وطالبة، مما يعني أنه لن يكون بإمكاننا في ظل الوضع الحالي سوى تخريج 3 آلاف طبيب سنويا، في أفضل الأحوال، وحتى يمكن الوصول إلى عدد من الخريجين يوازي كل الأطباء الموجودين في بلادنا حاليا، فإننا بحاجة إلى 25 عاما، هذا إذا لم يزدد الطلب على الخدمات الصحية، وهو أمر مستحيل.
من المؤسف حقا، أن كثيرا من جامعاتنا التي تنفق عليها الدولة مئات المليارات سنويا، ترفض توظيف أعداد كبيرة من أبنائنا الذين عادوا من الابتعاث، بعد أن حصلوا على أرفع الشهادات، من أرقى الجامعات العالمية، ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين، بذريعة عدم حصولهم على الخبرة اللازمة التي تمكّنهم من ممارسة العمل، فإذا كانت الجامعات ترفض توظيفهم، فكيف يمكنهم اكتساب الخبرة؟ ومع القبول بضرورة الاستعانة بالكفاءات العلمية من دول أخرى، للاستفادة من تأهيلهم الرفيع، وخبراتهم التراكمية، وعلمهم الغزير، ومساعدة الجامعات على نيل مراكز متقدمة في تصنيف الجامعات العالمية، إلا أن استيعاب أبناء الوطن الذين نالوا درجات علمية رفيعة يبقى في الوقت ذاته مهمة نبيلة ينبغي أن تُعطَى الاهتمام، وتنال الأولوية، ويمكن الاستفادة من تلك الكفاءات الوافدة في نقل علمهم وخبراتهم ومعارفهم لخريجينا الجدد.
ومما يحز في النفس، أن بعض الجامعات الحكومية التي تتحجّج بعدم وجود مخصّصات مالية تتيح لها استيعاب الشباب السعودي، تسارع في الوقت ذاته إلى التعاقد مع أساتذة وافدين لتدريس علوم نظرية، يمكن بكل سهولة إحلال سعوديين أماكنهم.
أبناؤنا مسؤولية في أعناقنا، علينا أن نقبلهم على كل حال، وأن نساعدهم في التحول إلى أدوات إنتاج تسهم في تنمية وطنها، وأن نمد لهم يد العون، وأن نقبل بعض عثراتهم، إن وجدت، ما دمنا نرجو منهم كثيرا، ومما يثلج الصدر أن رؤية المملكة 2030 حوت في كثير من جوانبها أهمية تقليل نسبة البطالة بين كل فئات الشباب، ورفع كفاءتهم، سعيا إلى تحقيق الأمن الاجتماعي، ورفع مستوى معيشة المواطن.