تم إعلان ميزانية التعليم للعام الجديد، والتي ستبلغ 192 مليار ريال. هذا الرقم يفوق الثمانين مليارا التي تم اعتمادها عام 2014، والتي علقت الكثير من الآمال في تحقيق حلم تطوير التعليم السعودي. ربما اعتدنا سماع الأرقام الفلكية التي تصب دوما في خدمة التعليم دون رؤية أثر يتماشى مع حجم الإنفاق، لكن الأمل يتجدد دوما في عهد فتح صفحة جديدة تفرض الشفافية والمحاسبية في كافة القطاعات.
يوجد بالتأكيد الكثير من النقاط التي يجب أن تشتمل عليها خطة تطوير وإعادة هيكلة التعليم ابتداء من الوزارة وحتى مدارس ومعاهد القرى، وتوجد في نفس الوقت بعض النقاط التي يجب النظر في كيفية تطبيقها، بحيث تحقق أعلى استفادة ممكنة، مثل برامج التربية الخاصة، وبرامج كليات التربية، وقطاع التدريب على رأس العمل على سبيل المثال لا الحصر.
بدأت التربية الخاصة منذ فترة طويلة في وزارة التعليم بالإشراف على مدارس الدمج وغيرها، بالرغم من وجود الكثير من العقبات إلا أن الحاجة الماسة إلى هذه التخصصات فرضت وجودها في ساحة التعليم. مع الضغط الشديد لمواكبة الاحتياج، ظهر لنا عدد كبير من المراكز وبرامج تأهيل متخصصين التي تقدم خدمات ضعيفة وغير مقبولة، هذا بالإضافة إلى ضعف برامج كليات التربية، والتي يعاني خريجوها من عدم التماشي مع متطلبات سوق العمل. لهذا يجب عمل «نفضة» لبرامج إعداد متخصصي التربية الخاصة ولمراكز ذوي الاحتياجات الخاصة والخدمات التي تقدمها مدارس الدمج، بحيث توفر معامل تدريب لطلاب الجامعات مع ضمان تقديم خدمات تلتزم بحد مقبول من الجودة دون استغلال أولياء الأمور. التربية الخاصة مجال معقد تتعدد فيه التخصصات وتتداخل، لهذا يجب أن تتماشى هذه التخصصات مع فتح وظائف بمسميات تغطي جميع الفئات، وخصوصا في مجالات نادرة ومهمة، مثل العلاج السلوكي التطبيقي، بحيث نشجع المتخصصين في هذه المجالات على ممارسة أعمالهم بشكل رسمي في الدولة.
الحديث عن إعداد طلاب كليات التربية في تخصص التربية الخاصة يصب في مجال أوسع يجب أن يشتمل على جميع التخصصات التربوية الأخرى. فكما يجب أن ننفض برامج التربية الخاصة ومدارسها، يجب صرف جزء كبير من الميزانية لعمل ذلك أيضا لبرامج إعداد المعلم العام. قد يشتمل ذلك على الكثير من المحاور مثل معايير القبول، والخطط الدراسية، وتدريب الكوادر وتجهيز شبكة من المدارس النموذجية بالتعاون مع التجارب الرائدة في القطاع الخاص، بحيث نسمح للمعلمين بالتعلم من أفضل التجارب بشكل تطبيقي ومباشر. هذا الاستثمار في إعادة هيكلة كليات التربية قد يدفعنا إلى استقطاب بعض الكوادر الأجنبية، مما يرفع التكلفة في المراحل الأولى، لكن في حال تطبيق ذلك ضمن برنامج مخصص لنقل المعارف وبناء القدرات المحلية بشكل بطيء وتدريجي، فسيمكننا خفض التكلفة على المدى الطويل مع إنشاء نظام محلي مستدام.
بالتأكيد سيتم تخصيص جزء من الميزانية لتدريب القوى العاملة في التعليم الجامعي والمدرسي كأحد الأشكال الأساسية لتطوير التعليم، ولي في ذلك رأي آخر لا يتعارض مع أهمية التدريب على رأس العمل، وإنما في الكيفية التي تعقد بها الدورات التدريبية والآليات المعتمدة لقياس الأثر. يعتقد البعض من الباحثين في مجال التعليم أن الدورات التدريبية التقليدية تعتبر من أكبر عوائق التطوير المهني لأنها مقيدة بوقت محدد، يتم تطبيقها عادة خارج الصف، تترك انطباعا وإحساسا بالإنجاز دون النظر في تقييم المهارات التي استطاع المعلم تطبيقها فعليا داخل الفصل.
أيضا، يعيب هذه الدورات طريقة تصميمها، بحيث يلعب المعلم دور المتلقي الذي ينتظر المعلومة المقدمة إليه مباشرة، وهذا تماما ينافي ما نقوم عادة بتدريب المعلمين على تفاديه مع الطلاب داخل الفصول. يجب إعادة تعريف التنمية المهنية، بحيث تشتمل على الكثير من الوسائل، مثل إعداد مجتمعات التعلم المهنية داخل المدرسة، والاستفادة من خبرات المعلمين داخل المدرسة وخارجها من خلال إنشاء شبكة تربط المعلمين ببعضهم، والأهم من ذلك ربط فرص التنمية المهنية باحتياجات المعلم الذاتية والمرتبطة بالمعايير الوطنية للمعلم، فلا يجب أن يدرب المعلم على مهارات هو غير مستعد لتلقيها، أو أن يتم الترشيح للتدريب بشكل عشوائي. مربط الفرس في مجال التدريب على رأس العمل يكمن في جودة المرشدين الداعمين للمعلمين في المدرسة والجامعة، مع التأكد من أن سياسة المنشأة وقيادتها تدعمان فعليا تطبيق الممارسات التي يتم التدريب عليها، فلا يضيع التدريب هباء ويخف الحماس للتطبيق تدريجيا لعدم وجود دعم كاف على مستوى القيادة. التنمية المهنية مجال لا يقصد الأشخاص بحد ذاتهم فقط، إنما يشتمل على تأسيس البيئة الداعمة للتنمية المهنية بشكل مستمر.
يعتبر قطاع التعليم من أكثر القطاعات التي يضرها الهوس بالأرقام لقياس العوائد، فلو نظرنا إلى عدد المعلمين الملتحقين بدورات تدريبية، أو عدد المعلمين الذين تم ابتعاثهم، أو عدد المدارس الجديدة، أو عدد الوظائف... فهذه كلها عبارة عن أرقام تدل على الإنجاز بالتأكيد، لكنها لا تعني بالضرورة رفع جودة الخدمات المقدمة للطلاب في مدارسهم وداخل فصولهم. كما ذكرت سابقا، يحمل عهد الشفافية والمحاسبية الكثير من الأمل في النظر إلى اللب والجوهر، عوضا عن الاكتفاء بالأرقام فقط لقياس أثر الاستثمار في ميزانية هذا العام.