التاريخ يكتبه كاتبوه من خلال عواطف معينة، وروايات متعددة، وهذا الكلام متفق عليه، ومع هذا لا بد من أن يجد المتعمق في التاريخ قواسم مشتركة، مجمعا عليها، بين الروايات، تؤكد على تفاصيل الحدث التاريخي المراد بحثه..
من المجمع عليه، والذي لا يمكن الشك فيه، أنه بين أعوام 1332 و1337 هجري، 1913 و1918 ميلادي، اندلعت الحرب العالمية الأولى، ودخلت أشد مراحلها، وانتهى الأمر بانتصار الحلفاء ـ المملكة المتحدة؛ لبريطانيا العظمى وإيرلندا؛ وفرنسا، والإمبراطورية الروسية ـ على دول المحور ـ الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والدولة العثمانية، ومملكة بلغاريا ـ؛ ومجمع عليه أيضا أنه في نفس هذا الوقت، وتحديدا بين عام 1916 و1919 كانت المدينة المنورة تحت ولاية آخر عثماني عليها، وهو فخري باشا أو فخرالدين باشا، الملقب إنجليزيا بالنمر التركي، وخلال أيامه حصلت حروب ومناوشات طاحنة في مدينة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، هزم فخري من أطلق عليهم المتمردين، ثم هزموه، وطلب من حكومته إرسال تعزيزات عسكرية إليه، ولم تتمكن، بل أبلغته بأنها لا تستطيع ذلك، وأصدرت إليه الأوامر بالانسحاب ورفض، ولإصراره على الرفض قل الطعام في المدينة، وشحت الأدوية، وتفشت الأمراض، وترك الناس بيوتهم خوفا على أنفسهم، وأصبح الوضع مأساويا بمعنى الكلمة، وانتهى الأمر بفخري أن ألجأه ضباط حاميته في 13 /1 /1919، على الاستماع لهم، والاستسلام، ووسط هذه الأحداث الدامية، نقلت الدولة العثمانية ثلاثين غرضا من الآثار المقدسة وأمانات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الباب العالي، مقر السلطان، بالآستانة، تحت حماية 2000 جندي..
ما ذكرته سابقا، لا يمكن أن يختلف عليه اثنان، فالكل على يقين من أن الوضع بالمدينة المنورة آنذاك، لا يطاق، وبسببه تكونت ما يمكن تسميته بلجان طوارئ شعبية؛ يذكر السيد عثمان حافظ، الأديب السعودي المشهور، في مذكراته المسماة (صور وأفكار): أن جدي لوالدي السيد حسن فدعق، الذي ورث إمامة الشافعية بالحرم المكي عن عمه وجده عام 1809، ترأس لجنة لإحصاء أهل المدينة المنورة الذين نزحوا منها، وهاجروا بسبب الظروف السيئة التي أحاطت بهم، وأسهم في إرجاعهم إليها، ومن أعضاء اللجنة، السيد علوي السقاف، والسيد عبدالله جمل الليل، والشيخ أحمد العلمي، والشيخ عمر حماد، والشيخ الدفتردار..
أختم بمجمع عليه آخر، وهو أن عرض التاريخ، وإن كان مؤلما، أمر لا ينبغي أن يرفضه العقلاء؛ وعلى كل قارئ للتاريخ ومستمع له أن يحذر من الوقوع في منطق التعميم السلبي، أو أن يقوم بتجيير أفعال السابقين على اللاحقين، حتى لا يسهم بوجود فجوة بين الشعوب، من أمثال تكرار مقولة إن العرب خونة، ومعادين للآخرين.