الخطاب النقدي للمعارضة السورية رائج في صفوف السوريين المنخرطين بالثورة، في صفوف المعارضين أنفسهم أيضاً، بل إنه الخطاب السائد. لن تجد صاحب رأي في صفوف الثورة يمتدح المعارضة؛ في أدائها، سلوكها، تحالفاتها، شخوصها، تشكيلاتها. لم يبق موضع إبرة في جسد المعارضة لم يتم انتقاده، سواء في الكتابة والفن أو في التعبير الشفوي المباشر على وسائل الإعلام. الجميع ينتقد كيانات المعارضة وشخوصها بأسمائهم وصفاتهم ومواقعهم التمثيلية. لم ينج أحد ممن احتل موقعاً في الكيانات التمثيلية، الجميع طاله النقد المحق أحياناً، والتجريح والشتم أحياناً كثيرة، ليس من مستخدمين مجهولي الهوية والاسم، بل من أشخاص معروفين؛ كتاب وصحفيين وناشطين سياسيين.
كان أداء المعارضة التقليدية سيئاً منذ البداية! بطيئاً، مهلهلاً، يعكس عدم إدراكها لما يحدث في سورية، حجمه ومداه. إذ لم يكن لديها تصور واضح لمدى إيمان الناس بالثورة، وقدرتهم على التحدي والصمود في وجه نظام استباحهم لمدة نصف قرن، فقد تعاملوا معها بداية بنفس أدواتهم السابقة، الأدوات المستقرة، والتي أُقرت في ظل نظام مستفردٍ بهم دون شعب حولهم، يحضنهم ويمثلونه وينطقون باسمه، أي أنها أدوات أقرها النظام وأقر حدودها، ومن يخرج عن هذه الحدود كان يزج به في السجن، لتصدر بيانات من خارج البلاد تطالب بهذا السجين أو ذاك، وفي أحيانٍ قليلة يسمح النظام بالمطالبة بالسجناء داخلياً، ضمن حدود محسوبة وفقاً للتغيرات السياسية في المنطقة، ووفقاً لتغيرات علاقات النظام مع القوى الإقليمية والدولية. وأول ما فعلته الثورة السورية هو تدمير هذه الحدود وإزالتها نهائياً، فلم يعد هناك سقف للمطالب التي لم تقف عن حد المطالبة بإسقاط النظام مقايسة على ثورات الربيع العربي التي سبقتها وزامنتها، بل المطالبة بمحاسبته على جرائمه الحالية والسابقة. كان لدى قاعدة الثورة وقياداتها الميدانية من الطبقة الوسطى إيمان بقدرتها على فعل المستحيل؛ إسقاط النظام ومحاسبته.
بعد تجذر الثورة وانتساب الملايين من السوريين لها، حدث انتقال في أداء المعارضة السياسي التي بدأت تشكيل كياناتها على المستوى الوطني التمثيلي، وعلى مستوى التيارات التي عكست الانتماءات الفكرية والمصالح أيضاً. هذا الانتقال على سلم الأداء المعارض كان من السوء إلى الرثاثة. وعكس هذا الأداء الرثّ، الذي كان مركزه المزايدة في الخطابة والفصاحة على جمهور الثورة، سوء فهم لموقع سورية، وطبيعة النظام، والدول المركزية في قرار إسقاط النظام، وآليات إسقاطه. وفي ظل هذا الأداء الرث وليس بسببه، اختطف كامل قرار المعارضة تقريباً. ودخلت الثورة السورية معارك الحارات والأزقة. لينتهي المطاف بجمهور الثورة ونخبها السياسية خارج الملعب، وليصبحوا الأقل تأثيراً في مصير ثورتهم ومصير بلادهم التي أصبحت مسرحاً لحروب دولية أكبر من قدرتهم على التأثير فيها!
ما سبق هو ملخص سردي من وجهة نظري لهجاء المعارضة الذي تستحقه. لكن هذه السردية عن أداء المعارضة السيئ والرث يحاول أن يعزف عليها النظام وشبيحته وجمهوره الموالي، ويحملها سبب خراب البلد. هذا يمكن فهمه لأنه بالنتيجة أداء سياسي يريد تحميل الأعداء والخصوم سبب الخراب، بخلق الأكاذيب ونشر الدعاية المضللة، لأن هذا يعني النجاة من مسؤولية تدمير البلاد وقتل وتشريد العباد.
لكن هناك جمهورا يحسب نفسه على الثورة، ليس كله من حاملي رهاب الإسلامفوبيا، يخجل من إعلان مصلحته
في بقاء النظام، لتعارض ذلك ليس مع القيم الإنسانية والأخلاقية المستقرة، بل لتعارضه مع القيم التي يحملها هؤلاء الأشخاص أنفسهم، التي تقر بالعدل والكرامة والحرية وتداول السلطة. عدم قدرة هؤلاء بحكم تاريخهم في السياسة أو الثقافة على الجهر بمعاداة هذه القيم يجعلهم يستخدمون سردية نقد المعارضة التي تتحول بين أيديهم إلى مقولات تعميمية ثابتة من نوع؛ «المعارضة أسوأ من النظام» و«المعارضة أيضاً مسؤولة عن الدم والخراب»! وينتج عن هذا تقسيم مسؤولية الخراب وقتل نصف مليون سوري وتشريد نصف السكان مناصفة بين طرفين أي النظام والمعارضة!
إن سردية نقد المعارضة الصحيحة، لا تعني بأي حال أنها مسؤولة عما حدث في سورية، بما في ذلك توالد وتكاثر وانتشار التنظيمات الإسلامية المتطرفة. فالذي حدث أسّه وأساسه تمسك نظام إجرامي - بتوثيقٍ من كل منظمات العالم المعتبرة- بالسلطة، ومعاملة سورية كمزرعة وراثية له ولخاصته، وسكانها كعبيد وأقنان. فالمعارضة لم تستخدم وسائل الإبادة الجماعية؛ كالكيماوي، والصواريخ الباليستية، والبراميل المتفجرة التي تقتل عشوائياً، وصار النظام ورئيسه ينسب لها بتسميته «نظام البراميلي» كتعبيرٍ عن استخدامه وسائل القتل رخيصة الكلفة، حيث يضمر ذلك احتقاره للضحايا الذين لا يستحق أيّ منهم رصاصة منفردة!
أداء المعارضة سيئ جداً، ولا تصلح بالفعل بتركيبتها الحالية لقيادة بلد لفترة طويلة، لكنها في أسوأ كياناتها وحالاتها وشخوصها وفسادها تصلح لأن تكون بديلاً مؤقتاً لهذا النظام. نحن ننتقدها بشكل أساسي لأنها لم تستطع إنجاز الخلاص من النظام، رغم أنها لا تتحمل سوى نسبة ضئيلة لا تذكر من مسؤولية بقاء النظام، حيث ينسب هذا بشكل أساسي لإدارة أوباما التي لم ترغب في إطاحته، ورغم الحروب المستمرة داخل هذه المعارضة على «المقاعد» فإنها برضاها أو حتى مجبرة كانت ستقودنا إلى صناديق الاقتراع التي ستظهر الممثلين الحقيقيين للناس، الذين سيشكلون قيادة البلاد. وكل ما قام به البراميلي هو كي لا نصل إلى هذه النقطة بالتحديد.