أبقى الإنسان القديم شيئا من حكايته على هذه الأرض التي عمرها وعاش فيها قبل آلاف السنين، ونستطيع فهم هذه الحكاية عبر لملمة البقايا المادية التي خلفها وراءه لتخلق لنا تصورا منطقيا يعكس طبيعة حياته لفهمها أكثر، وتشمل تلك المخلفات: المباني والعمائر، والأدوات، والمقابر، والنقوش والرسومات الصخرية.. فهي تشكل قيمة وضرورة معرفية لا غنى عنها، وليست ترفا معرفيا كما يعتقد البعض، وإن كان هذا البعض خيرا من البعض الآخر الذي لا يعيرها أي اهتمام ويسير في خرابها والعبث بها وإزالتها.
إن الآثار من المكتسبات الوطنية المهمة، فخارطة المملكة العربية السعودية أكبر مساحة من جغرافية شبه الجزيرة العربية التي كانت ملتقى العديد من الحضارات الإنسانية القديمة على مر العصور، وتزخر بالكثير من المواقع الأثرية التاريخية التي تدل على قدم وعراقة بلادنا. منها أربعة مواقع تم إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي بعد أن أقرتها الأمم المتحدة «اليونيسكو»، وهي: مدائن صالح، والدرعية القديمة، وجدة التاريخية، والنقوش والفنون الصخرية في منطقة حائل. وهنالك عدة مواقع لا تزال طور التسجيل. وعلى الرغم من ازدياد الاكتشافات الأثرية فأرضنا تختزن جمّاً من الآثار لم تكتشف بعد، ومثال ذلك قرية الفاو الأثرية الشهيرة عاصمة مملكة كندة الأولى، اكتشفت بمحض الصدفة البحتة من قبل موظفي شركة أرامكو السعودية قبل عدة سنين، والتي قادة العلماء إلى إعادة تقييم الآثار العربية في القرون التي سبقت ظهور الإسلام، فقد كشفت التنقيبات هناك عن مدى تطور الحياة في مدن الجزيرة العربية على طول طرق التجارة القديمة.
ولرفع الوعي وتعزيز الشعور الوطني، وتثقيف النشء بماهية الآثار وما تحويه بلادنا من إرث حضاري، جاء الملتقى الأول لآثار المملكة العربية السعودية برعاية كريمة من مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، حيث أقيم تجمع علمي للمختصين والمهتمين في مجالات الآثار، وثِقَ فيه تاريخ العمل الأثري، والتعريف بمكانة المملكة على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي من خلال المؤتمرات العلمية وورش العمل والمعارض المصاحبة، وقد استطاع هذا الملتقى أن يحول قضية الآثار إلى مسؤولية اجتماعية. وأشكر الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على جهودها في تنظيم هذا الملتقى الفريد من نوعه، وأشيد بما تقدمه الهيئة من مشاريع وبرامج للعناية بالآثار والتراث الوطني، فعلى مدى السنوات الماضية حققت إنجازات هامة وملموسة، ونتطلع للمزيد في السنوات القادمة.
كما نأمل أن يكون هذا الملتقى انطلاقة جديدة، ومضاعفة للجهود في حماية الآثار الوطنية والمحافظة عليها، وتطويرها والتنمية الشاملة لها، والاستفادة منها سياحيا وثقافيا واقتصاديا، إضافة لتسويق ثقافة الآثار إعلاميا في أوساط المجتمع، فالمجتمع هو الركيزة الأساسية لتحقيق هذه الرؤية، لأن مجتمعنا لا يخلو من أفكار موهومة عشعشت في بعض الأذهان، وتُفرخ مفاهيم خاطئة عن الآثار وحاجتها، ومن أجل محو هذه الخرافات التي أضرت بتراثنا الحضاري يتعين علينا مواصلة نشر الوعي والحث عليه بشكل دائم، ولا ننسى أن معظم الجامعات السعودية لا نجد فيها قسما لدراسة الآثار، فشباب الوطن بحاجة ماسة لهذا العلم ودارسته أكاديميا، ونتمنى أن يحصل ذلك في المستقبل القريب. وأخيرا من فات قديمه تاه.