إن قرار زيارة العراق في ظل الظروف الراهنة قد يراه البعض مغامرة وقد يراه آخرون شجاعة، وقد يكون أمرا طبيعيا عند فئة قليلة جدا. عندما تلقيت الدعوة للمشاركة في اجتماع بحثي وفكري لعدد من مراكز الفكر والدراسات الإقليمية والدولية سيعقد في بغداد، كان قراري وليد اللحظة دون أي تفكير، نعم سأحضر وبكل سرور. في زيارتي الأولى لبغداد، التي استمرت لقرابة أربعة أيام للمشاركة في تلك الجلسات الحوارية، انتابني شعور لا يمكن وصفه مطلقا، مزيج من الفرح والحزن، لا أعلم سر ذلك أو تفسيره ولكنه استقر سريعا على حالة من البهجة والسرور الحذرة نسبيا. ظهر يوم الخميس تقلع طائرة الخطوط السعودية من مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة وجميع من عليها من الزوار والمعتمرين العراقيين العائدين إلى بلادهم وليس بينهم سعودي إلا كاتب هذه السطور، وما هي إلا ساعتين وعشرين دقيقة وتهبط الطائرة في مطار بغداد الدولي الذي شيده الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 1982، يتم الاستقبال وإنهاء إجراءات الدخول خلال نصف ساعة تقريبا، ثم بعد استراحة قصيرة في تشريفات المطار نتوجه للسيارة التي تنتظرنا أمام البوابة مباشرة، لتتحرك وتعبر الشوارع وعيني على الطريق واللوحات الإرشادية التي تظهر عليها أسماء المدن وأحيانا الضواحي، والتقط الصور وأنا داخل السيارة التي تنقلنا مسرعة نحو ما يسمى بـ«المنطقة الخضراء»، وبداخلها قصر ضيافة رئاسة الوزراء، حيث المكان المخصص للإقامة. لن أتحدث عن النقاشات البحثية ولكن عن مشاهداتي وانطباعاتي الشخصية عن العراق والعراقيين.
نعم أدرك أنها فترة قصيرة جدا وساعات قليلة تلك التي جعلتني أشاهد بعض مناطق بغداد وألتقي ببعض أهلها، ولكن ما لا يُدرك كله لا يترك جلّه كما يقال. هي تجربة بسيطة أردت مشاركتكم إياها فقط. من المهم هنا الإشارة إلى أنه وبسبب الأوضاع الأمنية، وحرص الطرف المضيف على سلامتنا - وذلك يبدو احترازا أمنيا مكثفا لا يعكس بالضرورة الحالة الأمنية في بغداد - كانت هناك صعوبة في التنقل وزيارة الأماكن التي نتمنى زيارتها، إلا أن الفرصة قد سنحت لزيارة بعض الأماكن وإن كان ذلك لوقت قصير جدا. لاحظت أن شوارع بغداد وأسواقها ومطاعمها مكتظة بالناس. فعلى سبيل المثال، تناولنا العشاء يوم الجمعة في مطعم في قلب بغداد وخارج المنطقة الخضراء، وشاهدت الأسر البغدادية تعيش حياتها الطبيعية، وفي إحدى الزوايا يترنم أحدهم بموال شجي من التراث العراقي الأصيل والجمهور متفاعل معه، رجالا ونساء وأطفالا.
يتنفس العراقيون هواء عربيا صافيا ونقيا يجعلهم متشبثون بتاريخهم، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، يعيشون الحضارة العربية وتفاصيلها وشواهدها بشكل يومي. فلو تحدثنا عن بغداد فقط، ستجد المواقع والآثار التاريخية التي لا يمكن تجاهلها، كيف ذلك وأسماء مثل هارون الرشيد، المنصور، دار الحكمة، أبو نواس، الرصافة، المسيب، الكرادة، الكرخ، الأعظمية، الكاظمية، المتنبي، وغيرها الكثير، تحاصر البغداديين من كل مكان. هنا في بغداد تشتم عبق الحضارة العربية، والتاريخ المشع، العلم والمعرفة، الأدب شعره ونثره، المماحكات الشعرية، الغزل والفخر والتفاخر، وجمال نهري دجلة والفرات. معظم أسماء الشوارع تعيدك للمراحل الدراسية المبكرة، تتذكر ما تعلمته في بعض المناهج الدراسية وبخاصة الأدبية منها، وكانت بالنسبة لنا حينها مجرد أسماء وقصص وقصائد قد ننساها سريعا، لكن تخيلوا معي الشاب البغدادي الذي يدرس كل ذلك ويتخيل في الوقت ذاته شوارع وأزقة مدينته، هل يستطيع نسيان شيء من ذلك؟ مستحيل في نظري.
هذه الحقيقة الساطعة هي ثوابت وأركان عروبة العراق، وهي الكنز العراقي الثمين الذي لا يجب أن يفرط فيه أي عراقي بغض النظر عن دينه أو مذهبه، وهي أيضا العمق العربي العروبي الذي لن يندثر بسبب غبار بضع سنوات، ستكون في المستقبل مجرد صفحة تاريخية حرجة في الكتاب المشع لتاريخ العراق الطويل.
في حديثي مع المسؤولين والمواطنين العراقيين الذين سنحت الفرصة للقائهم وجدت حالة من الفرحة والترحيب الذي لا يكاد ينقطع وبخاصة عندما يعلمون أنني من السعودية، نسمع كلمات تتردد بين اللحظة والأخرى، من قبيل «أنتم أهلنا، نحن منكم وفيكم، نتطلع لقدومكم، لا تتخلوا عنا»، ومفردات احترام وتقدير أخرى تحمل مشاعر جياشة تؤمن يقينا بأنها تخرج من القلب لتستقر في القلب مباشرة.
خلال الزيارة قابلت بعض الشخصيات العراقية الرفيعة مثل رئيس الوزراء حيدر العبادي، وشخصيات من رئاسة الوزراء والبرلمان العراقيين. نقاش دار حول العراق وعلاقته مع دول الجوار العربي والعجمي، تحدثنا عن الحشد الشعبي، والمناطق السنية في الأنبار والموصل وغيرها، عن الحاضر الذي نعيشه بكل ما فيه وعن المستقبل المأمول للعراق وأهله. لن أنقل بالحرف وجهات النظر التي سمعتها، بسبب أنها ليست للنشر وتحت بند
(off the record ) ولكن ما سمعته مبشر ويدعو للتفاؤل، ويبدو أن لدى العبادي مشروعا وطنيا يسعى لتحقيقه رغم المضايقات، وربما الضغوطات، ولكنه أكد على إصراره على شق الطريق عبر خارطة تبدو له واضحة المعالم تسمى رؤية العراق 2030، وفي الواقع تبقى الخطوات على الأرض هي الفيصل في كل ذلك. سمعت من العبادي انتقادات حادة لأطراف خارجية ربما كنّا نتوقع عدم إمكانية انتقادها في العراق.
بلد كالعراق لا بد أن ينهض ويتعافى من كثير من الأمراض التي تعرض لها، ولتحقيق ذلك يحتاج العراق للمزيد من الانفتاح على عمقه العربي، وفي المقابل، من الضرورة بمكان أن تقف الدول العربية والخليجية مع العراق وقفة أخوية بما يخدم مصالح الجانبين، نحتاج أيضا إلى تكثيف الزيارات واللقاءات مع أهلنا في العراق، بكافة أطيافهم وانتماءاتهم. أيضا يبدو أن هناك حاجة عراقية للاستثمارات الخارجية وبخاصة الخليجية منها، وقد تكون هناك بعض العوائق حاليا ولكن يجب الإسراع في تجاوزها. في هذا الصدد ربما على الجانب العراقي تفهم حقيقة أن «رأس المال جبان» كما يقال، وأن المستثمرين يحتاجون ضمانات مطمئنة لدخول السوق العراقية، وعلى رأس ذلك الإسراع في عملية مكافحة الفساد وتخفيف الإجراءات البيروقراطية، وتكثيف العمل على الانتقال من مرحلة الهاجس الأمني إلى الوضع الطبيعي، وبناء اقتصاد قوي، ومشروع وطني شامل وجامع.
الخلاصة، وحتى لا يعتقد البعض أننا نقدم صورة وردية عن العراق، نقول نعم هناك في الداخل العراقي من لا يرغب في وجود علاقات وثيقة بين العراق وامتداده العربي والخليجي، ويعملون على شيطنة هذه الدول للحيلولة دون تحقق ذلك التقارب، وهؤلاء في الغالب إما يعملون ضمن بروباغندا إيرانية تسعى للهيمنة على العراق ومقدراته وإبعاده عن محيطه وعمقه الطبيعي، أو متأثرون بتلك الشائعات فقط ولا يدركون حقيقة الأمر والبعد الذي تهدف تلك البروباغندا لتحقيقه. هذا الطيف لا يمكن إضعافه إلا من خلال التواصل المستمر بين العراق وبقية دول المنطقة العربية والخليجية تحديدا. إن مثل هذا التواصل سوف يسرّع عملية اندماج العراق مع محيطه سياسيا وشعبيا، ولكن يحتاج ذلك إلى جهد غير اعتيادي من الجانبين، والأهم من هذا الجهد هو بناء الثقة وترسيخها أولا وقبل كل شيء.