تعودت الجماهير العربية والإعلامية أن تكون مؤتمرات القمم أو ما دونها أقل بكثير من طموحاتها وآمالها، بل تعودت أن تكون تلك المؤتمرات بعيدة جداً عن مناطق إحساسها وتفكيرها، لكنها لم تتعود أن يقوم قائد دولة مضيفة لأي من هذه المؤتمرات بتقديم وعد للأمة أن يحقق المؤتمر الذي يُعقد في بلاده نتائج حاسمة تجاه القدس التي وصفها الرئيس التركي بالخط الأحمر وتجاه القضية الفلسطينية، والحقيقة أن هذه النبرة من الخطابات الجريئة القوية في مواجهة العدوان الصهيوني والهيمنة الأميركية قد مقتتها الأمة من بعد انفضاح كل من الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان يريد رمي إسرائيل في البحر، ثم يكشف لنا التاريخ أن هزيمة 1967 التي ضاعت فيها البقية الباقية من فلسطين كانت مؤامرة اشترك فيها مع الصهاينة مجموعة من الخونة العرب في دول الطوق التي أصبحت فيما بعد طوق النجاة لهذا الكيان، ولم تكن هزيمة حقيقية، ومن بعد الخميني الذي تآمر مع الصهاينة ضد العراق في صفقة إيران جيت وحسن نصر الذي استخدم خطابه ضد الصهاينة في هدم مشاريع البنية التحتية في لبنان، وفي تسهيل وصول المزيد من الدعم العسكري ليستخدمه فيما بعد ضد اللبنانيين، ويقوم باجتياح بيروت الاجتياح الثاني بعد أن كان الاجتياح الأول على يد الصهاينة، وبعد الرئيس العراقي صدام حسين الذي أطلق صواريخ وصلت إلى الضفة الغربية ولم تصل إلى الصهاينة من أجل أن يرفع جماهيريته، ويبرر غزوه للكويت وتهديده للسعودية، وحافظ الأسد الذي كان وزيراً للدفاع في سورية حينما احتل الصهاينة الجولان، وقبض الأسدُ ثمنَ ذلك رئاسةَ سورية، ثم تزعم خطاب دول الممانعة التي أثبتت الوقائع أنها ممانعة ضد القضية، وليست لصالحها.
أما الرئيس التركي فإن نبرته العالية ولغته الدينية مضافة إلى الإحباط الذي يعيشه مثقفو الأمة لاسيما المتأثرين بالحركية الإسلامية جعلتهم يأملون كثيراً فيما سيصل إليه المؤتمر من قرارات وَعَدَت تركيا بأن تكون حاسمة، ولا يضعون خطاب الرئيس التركي الإسلامي في صف خطابات من سبقه من الرؤساء العلمانيين والقوميين والصفويين، وقد بلغت آمالهم - أي الجماهيرية_ حداً جعلهم يغضون الطرف عن التناقض بين واقع العلاقات التركية الصهيونية المزري، وبين خطاب تركيا المثير للحماسة، لكن للأسف، أو لنقل كالعادة كانت القرارات مخيبة للآمال، ولم تكن فقط أقل من طموحات الأمة، بل كانت قصاً ولصقاً من قرارات سبق اتخاذها والعمل بها قبل عشرين عاماً، وهي الاعتراف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقية عاصمة لها.
وانتهى المؤتمر على حقيقة مؤلمة جداً، وهي: أنه مازالت هناك دول تقتات جماهيريتها على عواطف الشعوب المغلوبة على أمرها، بل تصنع من هذه العواطف مظلات تستر بها أنشطتها النفعية «البرجماتية» في واقع إسلامي لم تعد الشعوب فيه تحتمل وقع خيبات الآمال التي زادت عبر خمسين عاماً مضت من قهرها ومرارتها، وأثّرت في معنوياتها وسلوكها بل وعقائدها.
كانت تلك الخيبات تأتيها من قوميين واشتراكيين وخرافيين، لكنها اليوم تسقط على الأمة من متحدثين باسم الإسلام ومتزعمين للحديث عن عصر الخلافة وإعادة تكوين الأمة، وحين تكون الخيبة في أصحاب هذا الطرح فإن آثاره المَرَضِيَّة ستكون ولا شك أكثر إيلاما والتهابا.
وإني هنا لا أخاطب الجماهير المحبطة التي تنساق نتيجة ما تعانيه من آلام نحو الاغترار بكل خطاب يرفع راية مظلوميتها ويطالب بحقوقها، وقد تعودنا منها سرعة نسيان تجاربها مهما كانت مرارتها.
ولا أُخاطب القادة الذين توهمهم أحلامهم وتقرر لهم مراكز استشاراتهم: أن يصنعوا من عواطف الجماهير راحلة يركبونها لتحقيق إستراتيجياتهم، بل ألوم من يقدمون أنفسهم للجماهير كمفكرين إسلاميين أو تَفْهَمُهُم الجماهير كذلك، وأربأ بهم عن أن ينساقوا هم أيضا مع هذه الخطابات ويجعلوا من أنفسهم خدماً لإستراتيجيات رؤساء أو أحزاب لا لشيء إلا لظنهم أن نواياهم حسنة، وأنهم يريدون الإصلاح قدر استطاعتهم، ويجعلون هذا مسوغاً لمشاركتهم في خداع الشعوب وتطويعها لدعايات الحكام ولو كانت على حساب الحقيقة.
وقد عودنا التاريخ القريب: أن الصوت الخارق للآذان لصالح قضية فلسطين هو صوت لتغطية السوءات لا لسترها، فبقدر ما يكون صوت الزعيم عاليا ضد الصهاينة نجد خدماته هي الأكبر لصالح الصهاينة، أما الذي يحارب بحق_ وهو قليل_ فإنه لا يتكلم، فلم تتكلم مصر حين حطمت خط بارليف الذي قيل عنه العجب، ولم تتحدث السعودية حين قطعت النفط عن الولايات المتحدة، ولم تتحدث باكستان قبل أن تعلن عن نجاح تجربتها النووية، ويؤلمني كثيراً أن لا أجد مثالاً رابعاً فكل ما يحمله التاريخ العربي القريب والحاضر إنما هو جعجعات ومتاجرات بقضية الأمة، أسلوب رخيص اتبعه القوميون والاشتراكيون والماركسيون ردحاً من الزمن، فلما انهارت قواعدهم الشعبية ولم يعد لهم من يُصَدِّقهم أُعطيت راية المتاجرة بالقضية لحزب ذي توجهات دينية كي يَسْقُط في أتون الكذب السياسي واللعب على أوتار قضية فلسطين ويسقط في زعمهم الخاطئ معه الحل الإسلامي وعندها تنهار الجماهير نهائيا وتفقد كل الأمل في كل أحد.
إن خيبة الأمل التي ستصيب الجماهير المتعلقة بالرئيس التركي كأمل القضية الفلسطينية والأمة، يتحمل وزرها المفكرون الإسلاميون الذين لم يكونوا في تقييمهم لموقف الرجل من القضية على مستوى الحدث، بل ولا أقل من مستوى الحدث، لأننا في مؤتمر القمة الإسلامي في إسطنبول لم نكن نطلب الكثير، أبداً لم نكن نطلب تسيير الجيوش لإنقاذ الأقصى، فالجميع يعلم أن ذلك أقصى على جميع قادة الدول الإسلامية من الأقصى ذاته، إن أقصى ما كانت الجماهير تؤمله في هذا المؤتمر هو إعادة طبيعة العلاقات العربية مع الصهاينة إلى ما كانت عليه قبل عام 1399هـ، وأن تحذو جميع الدول الإسلامية حذوها، ومنها تركيا التي تزعمت الخطاب الأخير في الرد على نقل ترمب سفارة بلاده إلى القدس الشرقية مع أنها تتزعم الدول الإسلامية ذات العلاقات المتنوعة مع الصهاينة، وتتزعم الدول الإسلامية ذات العلاقات المتنوعة أيضا مع دولة الملالي الصفوية، والتي فعلت بشكل مباشر وغير مباشر من القتل والتنكيل والتشريد والعدوان بأنواعه والدعوة المذهبية والاحتلال في أهل السنة وأراضيهم ما لم يفعله الصهاينة البعداء، إن الجماهير اليوم قد تواضعت طموحاتها، فلم تعد تأمل من قادتها أكثر من هذه المقاطعة بأنها تعلم أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ما هو فوقها.
وكما لا ينبغي للقوميين والليبراليين استثناء مصر والأردن من هذه المطالبة اليسيرة فلا ينبغي لمن يتبنون خطابا إسلامياً أن يستثنوا تركيا وقطر، لأن أي استثناء من هذا المطلب يدل على أن الولاء للانتماء الحزبي أو الإيديولوجي وليس للقضية الفلسطينية ولا للانتماء الإسلامي، فالقضية الفلسطينية لا تحابي أحداً ولا ينبغي لها ذلك، والإسلام يأمر بالعدل والإحسان.
وكما نطالب بإعادة الطوق العربي وفرض الحصار الإسلامي على الصهاينة، نطالب أيضا برفع الحصار عن الفلسطينيين في غزة، وتكثيف إمدادهم ودعم صمودهم وثباتهم في القدس والضفة الغربية وبقية فلسطين.
باختصار شديد الجماهير تريد اليوم من ينظر إلى فلسطين على أنها قضية تريد عواتق وأكف وسواعد تحملها لا من ينظر إليها على أنها سلم أو جسر يطؤها فرد أو حزب ليبلغ من خلالها إلى مآرب رخيصة.