من الغائب الأبرز على بعد أيام من شمس عام جديد؟ بكل تأكيد هم كثر، ولكل فرد على وجه هذه الأرض غائبه المختلف. إنه البريد التقليدي وغياب ساعي البريد. هما قصة ثقافة مندثرة منقرضة. كان البريد وكانت الرسالة الورقية وصالاً بين دموع العشاق وآهات الولد إلى والديه. كان البريد هو أشجان الغربة وأشجار الحب. تلك أمة قد خلت.
نهار رأس سنة غابرة من أيام المهجر والغربة، عاتبتني أسرة الجوار الأميركية أنني لم أبعث مع ساعي البريد بطاقة تهنئة، لا لعيد ميلاد المسيح، ولا أيضا لرأس السنة. ربما لأن العادة لم تغرس في ثقافتي، وربما أيضا لأنهم شحنوني إلى ذلك الغرب محملاً بأطنان المحرمات. عشت أيامي القاسية الأولى شابا مراهقا في أحراش ولاية جورجيا حين تركت أهلي في عوالم تلك القرى المثلجة. لم يكن ببيتنا ذبذبة الكهرباء فكيف بأحلام رنة التلفون. كنت، كما أتذكر، أتلقى في الشهر الطويل على الأكثر منهم مظروفين، لكنني كنت أزور صندوق البريد الخاص بشقتي على الأقل مرتين في اليوم الواحد. كان العثور على رسائل الأهل في جوف الصندوق متعة مدهشة تشعل في جسدي كل الحواس الخمس. لم نكن نقرأ الرسائل بالإعادة لمرات فحسب، بل كنت أيضا أشمها بعمق، وأقبلها بشوق، وأشاهد حروفها كأنها تتحدث إليّ بصوت ولسان المرسل.
وقبل تلك الأيام، كنت طفلا قرويّاً أشاهد الآباء من القرى المجاورة وهم يأتون إلى بيت عمي الأكبر، إما ليقرأ لهم رسائل الأبناء المهاجرين إلى ظلال مدن الشمال، وإما أن يكتب لهم رسائل الإجابة. ولن أنسى ما حييت قصة ذلك الأب الذي طاف عدة قرى فلم يجد من يفك له الحروف. كنا أطفالا نتحلق حول عمي وهو يتلو أو يكتب تلك الرسائل. ورقة صغيرة يحشر فيها أخبار كل شيء: من الأم التي «تسلّم» عليك، إلى الثور الذي خارت قواه وأصبح الأب ينتظر إرسالية الشمال لشراء ثور جديد. من ماكينة الماء التي تحتاج إلى إصلاح، إلى وصف «بنت فلان» التي أصبحت في سن الزواج إن كان لهذا «الطارش» من نية. حتى الهوامش لا تترك لأن الورقة في ذلك الزمن غالية ومعدومة. كانت الهوامش لوصايا مثل الصلاة ومثل التحذير من «التنن والتنباك» التي نسمع عنها، فلا نعرف إن كانت لباس «غنج» أو أكلا ضارا. انتهى ذلك الزمن، وانتهت معه ثقافة الشوق والدموع واشتعال الحواس العشر، يوم كانت القرية بأكملها تفتعل الاحتفال والعيد، حتى ولو لمجرد وصول رسالة.