الأهمية التي يجسدها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة موحّدة لإسرائيل، لا تتجلى إلا في ردود الفعل المضادة له، وفي القراءة الناقدة له، وفي فهمه بما يعكس خطورته وسلبيته، وليس في القراءة التي ترحِّب به وتمتدحه، لأن هذه الأخيرة -وهي قليلة بل نادرة على مستوى العالم- هي مضمونه المباشر وقصده الصريح، وهي بدورها موضوع ردود الفعل المضادة للقرار والناقمة عليه.
أما إذا تساءلنا عن وجه الحساب لهذه الأهمية ومضمونها، فإنها أهمية في المدى الذي يجاوز إلى الكل الإنساني وإلى المدى العالمي: أهمية على المستوى الأخلاقي والعقلاني والمبدئي، مستوى الاستنارة والتحرر والعدالة والسلام، وليس -فحسب- على المستوى النفعي لمجموعة قومية أو دينية.
إن القرار يقف أمام سيل من الإدانة له ورفضه لفظيا، وأمام تحليل لمصادمته للمعقولية والأخلاقية، وتدليل على حُفُوله بالسخافة والحمق والتهور، وأمام أسف لخرقه القرارات الدولية والاتفاقات الأممية التي أقرتها حتى أميركا نفسها، وأمام حسابات صادمة بمقدار ما يحلبه في قدح التطرف، وما يثبته من ادعاءاته، وما يفاقمه من إحباط وعدمية ونفي وإحساس بالمظلومية.
وردود الفعل على هذا النحو، ليست فلسطينية فحسب، وليست عربية وإسلامية، بل عالمية، رسمية وشعبية، بما فيها آراء كتاب وصحفيين أميركيين بارزين، بعضهم محسوب في صف إسرائيل، ومنظمات ضغط يهودية، مؤمنة مبدئيا بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما هو حال منظمة «جي ستريت» اليهودية الأميركية، حين وصفت القرار بأنه «متهور» و«لا يحقق أي منافع ملموسة، ويسبب العديد من المخاطر». وتحقيق السلام - فيما ترى المنظمة - يأتي عبر حل الدولتين، التي تكون فيه القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة.
هكذا لا تصبح الأهمية التي يعكسها موقف الرفض لقرار ترمب، محسوبة بمقدار منفعته من الوجهة العربية والإسلامية، بل بها ضمن منطق أعم، هو مقدار ما يجلو من منطق المعقولية والأخلاقية والضمير الكوني، منطق الكراهية للعنف والظلم وما يتسبب فيهما، مما أصبح من تركة الاستعمار البغيضة والعنصرية الشوهاء التي حملت وزرها المركزية الغربية، والتي أُذن للعالم أن يجاوزها ويناهضها، وأن يكتشف فيها من زاوية ما بعد الاستعمار،
أن الرجل الأبيض لم يكن يسجن العالم في سجن استعماره، بل كان يسجن نفسه كذلك، ولم يكن له -كما لم يكن لغيره- أن ينجو مما يصنع ويبث في أنحاء العالم من الخوف والذعر.
عَنْوَن توماس فريدمان مقاله الساخر من قرار ترمب، في نيويورك تايمز، هكذا: «إسرائيل وفن الهبة» Israel and the Art of the Giveaway، وفيه يأسف لأن القرار أعطى منحة مجانية لإسرائيل، ويتساءل: «لماذا يُقدِّم أي إنسان هِبَة مجاناً ولا يستخدمها أداة لتحسين فرصة اتفاق فلسطيني-إسرائيلي؟!» لقد كان بوسع ترمب، فيما رأى فريدمان، أن يقوم بأمرين: أن يطلب من نتانياهو وقف بناء كل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وأن ينشئ في الوقت نفسه سفارة إلى دولة فلسطين في القدس الشرقية. وبذلك يمكن له أن يفتخر لدى الجانبين بأنه منح كلا منهما ما لم يستطعه سواه.
فريدمان الذي أظهر ترمب في مقاله هذا في مظهر الأبله، يتسع بنظره إلى المشكلة من حيث هي علاقة توتُّر بين طرفين، لا ينحصران في الفلسطينيين والإسرائيليين معزولين عن غيرهما، بل فيهما وفيما وراء كل منهما مما ينقسم عليه العالم. وهذا منطق مناقض للانحياز الكامل إلى طرف واحد، غاصب ومعتد واستعماري، كما فعل ترمب، منطق يتعقَّل المشكلة بحثاً عن حل توافقي، في حين يضاعف قرار ترمب الإشكال، ويمدُّ في نَفَس الظُّلم بما لا مزيد في الأصل عليه. وأن تترك المشكلة دون حل أولى من أن تضاعف إشكالها وتزيد في تعقيدها.
هذا المنطق الأكثر اتساعاً وشمولا، هو منفذ الانتقاد للقرار من حيث ضيقه وتحيُّزه، وهو ما يبدو معه فاقدا للمعقولية، ولذلك بات لدى طيف واسع من كتاب الرأي والمحللين مفرحاً لإسرائيل وللعقائديين المتطرفين في وقت واحد. وإيران -فيما يستنتج جاكسون ديهل، مثلاً، في واشنطن بوست- هي أكبر المستفيدين من طيش ترمب، حين يصعب بناء تحالف ضد عدوانها في المنطقة. وليس للأميركيين، فيما يخص «المتطرفين العرب» إلا أن يأملوا -من وجهة نظر تحذيرية لدى ديهل كذلك- في أنهم في أماكن أخرى مشغولون بالصراعات، عن قيادة الهجمات بأسلوب يشبه الهجوم في بنغازي، على أهداف الولايات المتحدة.
والحسبان لضيق القرار وتحيُّزه ليس منحصراً في المنفعة التي يجزيها للمتطرفين في الجانب العربي والإسلامي، فهو -على نحو ما يتنبه روجر كوهن، في مقاله: «لم توجد عملية سلام لترمب ليدمرها» في نيويورك تايمز- يجزي منفعة كذلك للمؤدلجين الدينيين والقوميين اليهود، الذين يعتقدون أن الأرض بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط «مورَّثَة» لإسرائيل في الكتاب المقدس، من دون أن يخطر في بالهم من يعيش فيها الآن. ولذلك يستنتج كوهن صفة الضيق التي تخنق القرار، من طبيعة المخاطَب الذي يتضمنه: «إنه موجَّه غالباً إلى جمهور محلي من الإنجيليين والجماعات اليهودية الأميركية الكبرى».
وبالطبع برز احتجاج إسرائيل بديموقراطيتها، ومساحة الحرية والحقوق المضمونة فيها للتعدد وكفالة العبادة في القدس لكل الأديان، ولتبكيت الوضع العربي بوصفه في موضع النقيض لها. وذلك من أجل منح القرار قيمة إنسانية، وجعله بمثابة جائزة «استحقاق» حضاري لها في وسط همجي. ولم ينطل هذا الادعاء، بل استدعى فضح عنصرية إسرائيل، وتوصيف الإذلال اليومي فيها - على حد وصف روجر كوهن في مقاله المشار إليه- للشعب الفلسطيني،. وهذا السلاح الحجاجي الذي تستخدمه إسرائيل هو سلاح موجَّه إلى العالم المتقدم منذ بروز الإيديولوجيا الصهيونية، يستخدم لغة تشويهية للعرب والمسلمين وينبثُّ في كافة وسائل الإعلام والتواصل من الأفلام السينمائية إلى الكتب والبرامج والمواد الصحفية.
أما السؤال الجارح، عربياً وإسلامياً، عن الخطوات العملية الملموسة لمواجهة قرار ترمب والحفاظ على القدس، فإنه حين يكشف عن الحسرة ويدلل على الإرهاق والتشتت، ويعرِّي العنتريات العقائدية والانتهازية تجاه القدس والقضية الفلسطينية، يخدم تلك القضية، فيما يخدم الوعي العربي والإسلامي في مداه الأوسع، فليس يعاني هذا الوعي من مشكلة أكثر من معاناته من الجهل بذاته وعزلته عن اللحظة المعاشة وتحولاتها التاريخية. لكن السؤال، بمدلوله النافي لأي قدرة على المواجهة، لا يصلح مبرراً للقبول بقرار ترمب، فليست «العافية» وحدها من يستطيع فرض السلام!