لقد هجر الناس القلم والورق والدواة، وأصبحت القراءة في كتاب كصواب مهجور، استبدله الناس بلعبهم الجديدة في وسائل التواصل الحديثة.

كان من رواد هذا المقهى القديم الذي يعبق بتراث الماضي، بصوره الباهتة من أثر الزمن وأرائكه المتهالكة، والتي لو نطقت ستروي ألف ألف حكاية، رواده جلّهم من الطبقة المتوسطة والمثقفين والمتقاعدين من عهود ماضية، يجلس وحيدا مهموما، يحتسي فنجان قهوته، يحاول أن يخط بقلمه سطور مقالته الجديدة، تتزاحم الأحداث في رأسه، جريمة قتل الساجدين في مسجد الروضة بسيناء من التكفيريين، مقتل صالح وجماعته على يد جماعة الحوثي، مكافحة الفساد في المملكة، والتي أثلجت صدور كل الناس، القمة الخليجية وأحداثها، المعارضة السورية بين الرياض وسوشي وجنيف وبقاء الأسد في السلطة، اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وغيرها من الأحداث التي كتب فيها، وغيره كثيرون.

وفي خضم كل الأحداث المتلاطمة والمتسارعه حوله، والتي لا تستقر ومعها نفسه على حال، تمنى أن يكون مقاله اليوم مختلفا عما يكتب كل يوم، واحتار كيف يبدأ، فكل الدروب تؤدي إلى البغضاء المنتشرة بين بني الإنسان وتداعياتها، والتي تملأ الفضاء وتتناقلها الشاشات، فلا مفرّ ولا مهرب من هذه الفوضى، وهذا الضجيج الذي يحيط بنا ويحاصرنا بلا فكاك.

كان المقهى يذيع أغاني أم كلثوم، وها هي تصدح بصوتها الشجي، وكأنما تدعونا إلى عوالم الزمن الجميل، وهي تغني «الأولة في الغرام» للموسيقار زكريا أحمد، وشعر بيرم التونسي، كان زكريا أحمد علامة فارقة في الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن الماضي، بألحانه لكثير من المطربين، منهم كوكب الشرق أم كلثوم، والتي خلدتهم معا وعلى مر الأجيال، ومعهم التونسي، وهو من أشهر شعراء العامية في مصر.

أم كلثوم التي كان يجتمع العرب ويتوحدون «من غير دعوة أو ميعاد» لسماعها في كل البلدان في ذاك الزمان، في سهرة الخميس من بداية كل شهر عبر المذياع، ليتذوقوا الفن والغناء الأصيل، وأخذته الذكريات بعيدا مع اللحن والكلام، وصوت أم كلثوم لعقود مضت مع الذكريات، ليتذكر جارهم الطفل الصغير عيسى حين مرض وفارق الحياة، وكانت أمه كلما سمعت هذه الأغنية تبكيه حزنا لفراقه، وحين تشدو أم كلثوم مقطعا منها يقول

«حطيت على القلب أيدي,, وأنا بودع وحيدي ,, وأقول ياعين ,, ياعين بالدمع جودي ياعين»، ولهذه الأغنية قصة.

ففي عام 1944، تُوفي محمد ابن الموسيقار الشيخ زكريا أحمد، وحزن عليه حزنا شديدا فَطَرَ قلبه، لدرجة أنه لم يذرف دمعة واحدة من شدة حزنه، وزارته أم كلثوم لمواساته، لعلها تستطيع إخراجه من حالة اليأس والقنوط التي حلت به، ولم تفلح في التخفيف عنه، وفكرت أن الوحيد القادر على إخراجه من حزنه هو نديمه وصديق عمره الشاعر بيرم التونسي، فقالت: «ابعتوا لبيرم».

كان بيرم وقتها في الإسكندرية، وعندما عاد إلى القاهرة كان قد مَرَّ على الحادثة أيام، فلما دخل بيرم عليه لم يشعر به زكريا، لأنه لم يكن يعي ما حوله من شدة تأثره وذهوله، عندها أدرك بيرم أنه لن يستطيع إخراجه من تلك الحال سوى بالموسيقى والشعر، فأسمعه «الأولة في الغرام»، حتى وصل إلى المقطع «حطيت على القلب أيدي ,, وأنا بودع وحيدي ,, وأقول يا عين ,, يا عين ,, بالدمع جودي يا عين», حينها انسابت دموع الشيخ زكريا وأخذ في البكاء، وبعد أن هدأ قليلا أمسك بعوده ليبدأ تلحينها وهو يبكي فأبكى معه بيرم، وظلا يبكيان معا تارة ويدندنان، وبعد ليلتين اكتمل اللحن، لتخرج إلى النور تلك الأغنية الخالدة «الأولة في الغرام».

ذاك، كان عهد من زمن جميل مضى، وها نحن -وعبر عقود من الزمان- نستدعي ذكريات من ذاك الزمان بمرها وحلوها، ونستحضرها عَلَّنا نرطب بها جفاف واقعنا المؤلم، وقسوة أيامه ومرارة أحداثه، ونتساءل: أليست الحياة هي هبة من الله لنا؟، وها نحن نفرط فيها بين بغض وشقاق وفرقة وتناحر، حتى وصل الأمر بنا حد الاقتتال والاحتراب، وعدُوّنا يجلس في شرفته يدندن أغنية النصر والظفر، ويلحنها ويغنيها ويعيش أحلى أيام حياته بيننا، مزهوّا بنصره، فهو لم يعهد مثل هذه الراحة والعطلة، ولم يتمتع بإجازة واحدة وهو بيننا منذ 7 عقود عاشها في خوف وقلق وترقب وتخطيط ومكر وتدبير، وربما كان مبالغا في قلقه، فنحن كنا وما نزال في غفلة عنه، لاهين معظم تلك العقود والعهود.

فيما مضى، عانينا من الحروب ما عانينا، فهي تبدأ بجرة قلم وقرار، وقد تنتهي الحرب في أيام عدة، وقد تطول، وربما تمتد سنوات، ولكنها طالت أم قصرت، فتبعاتها ستحتاج عقودا من الزمن لعلاج تداعياتها وإفرازاتها على المجتمعات والشعوب، وهذا حديث لو خضنا فيه سيطول، ولكنها تظل -رغم ويلاتها التي تجرها وراءها- أهون ألف مرة من الاقتتال والتناحر، ربما قد يكون هذا هو قدرنا كما يقول البعض، وهنا يحضرني قول الشاعر عبدالوهاب الدريني:

ولا تجزع لحادثة الليالي

فكل مصيبة يأتي انتهاها

مشيناها خطى كتبت علينا

ومن كتبت عليه خطى مشاها

فهل هذه هي خطانا التي كتب علينا أن نمشيها؟ وإلى متى، ومتى سننتبه لموضع خطونا قبل أن نخطو فيه وبه وإليه والطريق التي ستنتهي فيه؟.

لقد حزنت أم عيسى على فقيدها وهي ما زالت تبكيه منذ عقود، وبكى الشيخ زكريا وحيده ولحق به ومن بعده بسنين، وها نحن اليوم نرى مئات الآلاف من الأمهات المفجوعات نتيجة ما صنعت أيدينا واقترفته من خطايا وآثام.

أما آن الأوان لنا أن ننتهي من هذا السعار الذي أصاب بعضا من بلادنا؟ أما آن الوقت وأزف كي نوقف الاقتتال ونداوي جراحنا وجرحانا، ونعيد مشردينا ونأويهم ونفكر كيف نبني ما هدمناه ودمرناه، وفعلنا كل منكر حين غاب الوعي عنَا ومنَا، وتمكنت منا الفتنة وحلت بيننا، تفرقنا أشلاء وأنواء؟ أما آن لنا أن نلملم قبضتنا ونوجه لطمة لوجه أعدائنا لتطيح برؤوسهم الصفراء الهزيلة من أثر الحقد والسموم؟ أما آن لنا أن نتّحد ولو بالرأي والكلام، فذلك زعيم أن يصيب أعداءنا «بأزمة قلبية»؟ أما آن الأوان للأمهات الثكالى أن يذرفن الدموع، ويغسلن الحزن الجاثم على الصدور، ويسكن بين الضلوع؟ ألم يأنِ لنا أن نحلم بغد أفضل تمنيناه وغاب عنا منذ سنين؟ أما آن الأوان أن نتصالح ونتسامح ونعتذر لبعضنا، ونخجل مما فعلناه ونتوب عنه ونرجع إلى سابق عهدنا متحابين ومتآخين وكما كنا؟ أما آن الأوان كي نأمل ونحلم أن يحل في قلوبنا وبيننا السلام. آمال وأحلام ربما تتحقق في يوم من الأيام؟.

وها هو يرفع قلمه عن القرطاس ليريحه، فهو قد تعب بدوره من كثرة ما خطَّه من هموم، حينها ملأ الفضاء حوله صوتُ أم كلثوم، وهي تشدو أغنيتها الخالدة «الأمل.. أنا بالأمل أسـهر ليالي ,, في الخيال وابني علالي ,, وأنا لو يروح,, عمري أنوح,, دا محتمل,, ولا أعيش من غير أمل,, لكن أنا,, أنا عندي أمل.» والتي هي وبالصدفة من كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد.