رحل أبوبكر سالم.. رحل كما ترحل الأطيار.. أفل كما تأفل النجوم.. غاب كما تغيب الكلمات في مواقف الوداع.. رحل أبوبكر سالم بعد حياة مفعمة بالشجن والحب والحنين، رحل أبوبكر بلفقيه بعد ما يقارب الخمس والخمسين عاما في عالم الغناء الحقيقي والطرب الأصيل الذي لا يتكرر.. لا يتكرر!

رحل أبو بكر، قبل أن أنشر بعض أوراقي عنه، خاصة تلك التي قاربت فيها -عن قرب- دعوة تكريمه من جامعة حضرموت، ومنحه الدكتوراه الفخرية، ثم حضوره حفلة صديقه مرسال كرامة، والتي أنعشت روحه الهائمة مرة أخرى بتراتيل العود والفن الحضرمي الجميل! ولعلني أستحضر تلك الكلمات لتكون أولى رثائياتي في ذلك الفنان العظيم:

عندما دعي أبوبكر إلى المكلا عام 2003 لتكريمه، كان قد غاب طويلا عن حضرموت ومدينتها الأثيرة جدا إلى قلبه «المكلا»، مرورا بالمدينة التي أطلق فيها أولى تغريداته للحياة قبل ست وستين عاما.. مدينة «تريم».

كان الفنان الذي يسكنه في حاجة ملحة إلى هذه الرحلة لمأوى ذكرياته الأولى، ولتلك البيوت الحضرمية التي شرعت نوافذها المزينة بالنقوش الملونة لاستقبال تلك التراتيل الغنائية الصوفية، التي لطالما سمعها من المقربين حوله، وهم الذين يمتلكون وعيا دينيا استشراقيا غلب على حياتهم كلها.. شريط من الذكريات كأنه القبس الذي أشعل فيه تيار الحياة من جديد: انتقاله إلى عدن بعد أن شب عن الطوق واطمأنت نفسه للقاء عالمها الغنائي الخاص، وما ارتبط بذلك الفضاء من ذكريات الشباب وصدى الأحلام الفتية التي جعلته أسيرا لمحبوبته عدن، حتى وهو في آخر الدنيا يغني على مسارحها أغاني الشجن والوجع، والتي ظلت في ذاكرة الوجد فنا فريدا لا يتكرر:

«وانت يا عاشق ديارك/ قم وهب وانفض غبارك/ المكلا لك، ولك صنعا وبندر عدن..»، ثم نداؤه الآخر إلى طائرة لا تغيب، فتنقله في كل مرة إلى أشجان عدن:

«يا طائرة طيري على بندر عدن/ زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن/ ذي جنة الدنيا/ حواها كل فن..».

في مايو 2003 كان أبوبكر يطير بالفعل لتلبية نداء قلبه ومحبيه.. تطأ قدماه تراب حنينه.. يغادر مطارها إلى المكلا حيث جامعة حضرموت، والتي كانت صوره تزين مداخلها وأروقتها، لتزداد زينة بالكلمة المؤثرة التي ألقاها على الجمع الغفير الذي ملأ كراسي الرواق الأنيق، والتي سبقته دموعه لختامها بعد أن فاض به ألق المكان والناس!

لم يكن أبوبكر يعلم بعد أن غادر المكان الرصين أن في انتظاره وجعا لذيذا آخر: كان فندق «الهوليدي إن» في المكلا يمتلئ بعاشقين آخرين، وفنانين من رفقة الزمن المبكر الجميل، ينتظرون على أحرّ من جمر الهوى بلفقيه ضيفا جاءت به الأقدار إليهم سائغا عذبا كغيمة.. يتوسط المكان الفنان الحضرمي العتيق ابن المكلا مرسال كرامة، وعندما طل عليهم بلفقيه بقامته الممتلئة آنئذ، وحبات العرق التي تنز من جبينه -عادة عندما يستبد به الفن أو الشعر أو الحب- نهض الجميع لتحيته، وعانقه مرسال طويلا، وقاده آخرون إلى «دكة» مطرزة بالمفارش الحضرمية الأنيقة، ليقرر أبو بكر تحيتهم على طريقته الخاصة بأغنية من كلمات صديق عمره حسين المحضار: «يا مروح بلادك ليل والشمس غابت» فيهتز الحضور من فرط الحنين، ليكمل أبوبكر نشيجه العذب: «عادنا الا انطربنا والتلاحين طابت/ يا مروح وقلبي منكم ما ارتوى/ ارحمونا فضيلة من لهيب الهوى».. فيعم الفضاء سكون من السحر المبين وأبوبكر لا يزال ينشج:

«عادنا الا روينا كل كلمة نغم/عادنا الا عرفنا ايش معنى نعم..» فيردد الحاضرون: نعم يا «بوبكر».. نعم نعم!.

كان على مرسال كرامة، وهو يأخذ عوده المعتق بالتطريب مهمة البقاء على المزاج العالي الرائق للمكان والجمهور، وقد أدى المهمة خير أداء، وهو يغني رائعته (ريم اليمن): «قال لي صاحبي بانفترق /قلت له كيف أنا بافارقك؟/ كل شيء يحتمل غير الفراق/ حيثما حليت ياريم اليمن/ ليت انا حل وألقي لي سكن...»، فينطرب أبوبكر وتبدأ تناهيده تخرج، فتخنق عبراته الشجية، ويزداد تألق مرسال ويحوّل نظره إليه وينشج بدوره: «يا رفيق المروة بي رفق/ كان عادنا تبانا نرافقك/ الجفا ليس من طبع الرفاق/ شل قلبي معك مالاق..»، فلا يقدر أبو بكر كتمانا لذلك الوجع الفني المشتعل داخله، ليسلم أمره للدموع التي بدأت تنهمر بغزارة خلف نظارته الذهبية، فيراها مرسال ويقرر إكرامها بغزارة: «كيف يقدر يفارق من عشق/ برد البعد وارحم عاشقك/ لا تحمله بعدك حمل شاق/ شل قلبي معك مالاق/ حيثما حليت ياريم اليمن/ ليت أنا حل وألقي لي سكن..».

ليلة كانت من ليالي (الألف).. لم تختلف عن الليالي الفنية (لرفيق المروات)، ولكنها كانت -هذه المرة- أكثر صدقا وأشد وجعا وأعذب لوعة.

الآن يا «بوبكر» هل نستجيب لك، وأنت الذي لطالما أمرت أعيننا «يا عين لا تذرفي الدمعة، ما دام لك في الأمل شمعة..»؟ فنجتهد اللحظة للبحث عن شمعة أمل فلا نجد، ولا نستجيب، ونظل نبكيك صامتين.. موجوعين بغيابك، غيابك كلك: إنسانا وفنانا وشاعرا وأديبا وتاريخا لموسيقى الكون الجنوبية.. وحكايات شخوصها مع اللوعة والفرحة والدهشة.

حتى بقايا رائحتك لا نزال نستنشقها من بعيد، في المسرح المجاور للبحر، وأنت تطل فيه بكل بهائك ومرضك منذ شهرين فقط، في ليلة صاخبة بالوطن، لتقول وداعيتك الأخيرة في حب البلاد التي احتضنت جمالك، الأغنية التي ألفناها منذ أكثر من أربعين عاما في كل مناسبات الوطن: «قوة الإيمان بالإيمان والعزم المتين.. يا بلادي/ يرتقي الإنسان عن إيمان في دنيا ودين../ يا بلادي.. واصلي والله يحميك إله العالمين..». فيكتب بهذه الأغنية الخالصة للوطن الحبيب آخر نداءاته الشجية في الحياة.

رحمك إله العالمين يا أبابكر سالم بلفقيه.