القدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى المصطفى، صلى الله عليه وسلم. جرحنا النازف أبدا منذ أن وقعت أسيرة في يد الاحتلال الصهيوني الغاشم.
ومع أن العرب والمسلمين لا يقبلون باحتلال أي شبر من فلسطين الأبية، بما في ذلك حيفا ويافا وعكا وكل المدن التي سقطت عام 1948، إلا أن سقوط القدس بعد هزيمة 1967 النكراء تظل الوجع الأكبر، لأنها المدينة الأكثر قدسية وأهمية لدى المسلمين بل والمسيحيين. ولعل وقوعها تحت الاحتلال أسهم بشكل كبير في بقاء القضية حية، فتجد طيفها في جاكرتا والرياض وفي إسطنبول وصنعاء، ورب ضارة نافعة.
وكلما خفت وهج القضية يسّر الله إحياءها عبر الصهاينة وأصدقائهم في العالم الغربي. فكل الانتفاضات بدأت بالقدس أو انتهت إليها، آخرها قبل بضعة أشهر حادثة البوابات الإلكترونية، إذ رفض الفلسطينيون هذا التدخل الإسرائيلي السافر في تنظيم شؤون المسجد الأقصى، ونجحوا بصمودهم في إفشال مخططهم الخبيث.
واليوم، الشكر موصول للرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يبدو أن تخصصه الدقيق إشعال الحرائق في الداخل والخارج، فمجرد إعلانه أنه ينوي نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة، وتكريسها عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب، انتفض العالم بعربه وعجمه ومسلميه ومسيحيه، ليقولها بصوت واحد: إن القدس عربية وهي عاصمة فلسطين الأبدية.
الجديد هذه المرة، هو أنه في الماضي كنت أجد نفسي في حوارات ساخنة في أوروبا وأميركا أو حتى عبر الإنترنت، لأشرح للأجانب عدالة القضية الفلسطينية، ولأن الحوار كان فيه القليل من العواطف والكثير من الحقائق والمنطق فقد نجحت -بتوفيق الله- في جعل بعضهم يتفهم على الأقل وجهة النظر العربية.
كنت أفعل ذلك بلسان أعجمي في بلد غربي، وأحتسب الأجر عند الله، لكنني اليوم أجد نفسي مضطرة لخوض الحوارات نفسها بلسان عربي مبين، في فضاء افتراضي عربي مع أشخاص مسلمين، يقيمون في جدة أو الرياض أو دبي أو القاهرة.
فلسطين وقدسها التي كانت القضية التي اتفق عليها المسلمون والمسيحيون، الشيوعيون والإسلاميون والقوميون، الموالون والمعارضون، الأنظمة الملكية والثورية، النخبة كما العامة، العرب والعجم، هذه القضية فجأة صارت أمرا فيه نظر! بل زاد الوضع سوءا حتى ليشعر المرء بأنه يعيش كابوسا مريرا، إذ يقول لك مراهق فكري يدّعي الثقافة، إن لليهود حقا تاريخيا في فلسطين المحتلة، وأنها أرضهم فعلا، والعرب طارئون عليها، متجاهلا كل حقائق التاريخ والجغرافيا، بل وما جاء في القرآن الكريم.
وصلنا إلى مرحلة مرعبة، يتم فيها التشكيك بحادثة الإسراء والمعراج، أو بمكان الإسراء «أحدهم يقول: إن النبي أسري به إلى ينبع!»، أو بكون المسجد الأقصى المذكور في القرآن هو نفسه الموجود الآن في القدس، بل وبكون القدس قبلة المسلمين الأولى. الهدف من كل هذا الكذب والتجديف هو تقليل مكانة القدس وفلسطين في نفوس الناس، حتى يسهل التخلي عنها خدمة للصهيونية العالمية. مع أن عدم وجود مقدسات في أرض المسلمين -لو صدقنا جدلا أكاذيب المرجفين- فإن هذا لا يجعلنا نتنازل عنها.
فنحن مع كشمير المحتلة، ونريد لأهلها حق تقرير المصير، ونحن مع المسلمين في سيكانج الصينية، وفي بورما، كما كنا مع المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا. وإنما وجود المقدسات في فلسطين يعطيها بعدا أشمل، ويجعل قضيتها أقوى ونصرتها أوجب.
ومع أن بعض هذه الآراء والتغريدات تصدر -ولا شك- من جيوش إلكترونية قد تكون تابعة للصهيونية العالمية والاستخبارات الدولية، لا سيما وقد بدا ذلك جليّا في محاولة ضرب العلاقات بين الشعوب العربية، ومنها الشعبان: السعودي والفلسطيني، إلا أن الصادم اليوم هو سقوط أقنعة بعض المثقفين الخليجيين المحسوبين على التيارات الليبرالية في المنطقة. فهؤلاء لم يتجردوا فقط من عروبتهم وينسلخوا عن إسلامهم بمباركة الحق اليهودي والسخرية من الفلسطينيين والمنّ عليهم ومحاربتهم، تحت دعاوى وطنية مزيفة، بل حتى تنكروا للمبادئ الليبرالية نفسها التي يقولون إنهم يتبنونها. فالليبرالية في العقيدة الغربية تناصر العدالة، وأبعد ما تكون عن التطرف القومي والتعصب الوطني. الليبرالي الخليجي أثبت أنه على ما يبدو يريد من الحرية الغربية حرية الإلحاد والشهوات، وليست حرية الفكر وسلامة الضمير.
عندما يقول مثقف سعودي كبير، إن المقدسات في مكة والمدينة فقط، وإنه لا ناقة للمملكة في نصرة فلسطين ولا جمل، فهذا يعني أنه يتنكر لسورة الإسراء ولحديث المساجد التي تشد إليها الرحال، ولكل القيم التي رضعناها هنا في بلاد الحرمين الحبيبة، والتي علّمتنا أن ثمة حبلا سرّيا يربطنا بأرض بفلسطين.
أو حين يعتبر آخر ما قدمته هذه المملكة الكريمة الأبية للأشقاء في فلسطين الصمود منّة وكرم وصدقة وبقية فضل، وليس واجبا إسلاميا وقوميا ووطنيا لأرض الإسراء والرباط والجهاد من بلد تضم قبلة المسلمين، ومرقد خاتم النبيين.
أو يأخذ الثالث التصرفات الصبيانية الهوجاء لبعض المندسين التابعين والممولين من الأنظمة المعادية للمملكة، ليعتبرها ذريعة للتخلي عن فلسطين. وكأن مواقف الأفراد والدول من القضايا العادلة والمصيرية مرتبط بعلاقة أصحابها معنا، فإن شكرونا أكرمناهم، وإن شتمونا أنكرنا حقهم التاريخي في أرضهم!.
هذا النفس الصهيوني المتزايد في الخليج، لا يشكل خطرا على جيلي والأجيال الأكبر منا، فقد نشأنا على حب فلسطين، وسنبقى أوفياء لها حتى نلقى ربنا، وإنما الخوف على الأجيال القادمة أن تقع في هذا الفخ، وتصدق أكاذيب أرض الميعاد، وأوهام السلام من أنصاف المتعلمين والمثقفين المنتفعين.
من أجل ذلك، نحتاج قانونا لتجريم التعاطف مع الصهيونية، بحيث يُعدّ كل متعاطف معها مروّجا لأدبياتها، معاديا لله ورسوله ودينه ووطنه، فمن يعادي القدس يعادي مكة، ومن يعادي مكة فليس من أهل القبلة. ويا ليت آيات سورة الإسراء تنقش على الكعبة ومعها صورة المسجد الأقصى، أو مسجد قبة الصخرة، بحيث كل من يرى الكعبة يبصر الأقصى. فما يقوم به هؤلاء المعادون لعروبتهم، والذين يحمل بعضهم للأسف جواز سفر سعودي، مُضِرّ جدا بسمعة المملكة ومكانتها العربية والإسلامية، لأنهم قد يحسبون عليها. فأي أحمق يدّعي الوطنية وهو يستعدي عليها أمة المليار نسمة؟
وأخيرا، يا أخت مكة: لا تحزني، ومهما أرادوا خيانتك لا تتألمي، فنحن على العهد باقون ولو كره الكافرون وأعوانهم المنافقون.