يُعد تنفيذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعده الانتخابي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لها، هو تجسيداً لوعد بلفور الأميركي الثاني، حيث تمثل وعد بلفور الأميركي الأول في وثيقة الكونغرس الأميركي التي نشرت في الثلاثين من يونيو عام 1922، والقرار رقم 322، الذي اتخذ بالإجماع في مجلسي النواب والشيوخ، والذي نص على التالي: «مجلس الشيوخ والنواب للولايات المتحدة الأميركية، يقرران أن الولايات المتحدة تدعم إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وطبعا فإن الأمر مفهوم أن ذلك يجب ألا يمس بالحقوق المدنية والدينية للمسيحيين وكل المجموعات غير اليهودية في فلسطين، وأن الأماكن المقدسة والبنايات والمواقع الدينية يجب أن تكون محمية كما يجب».
وتستحضر خطوة ترمب إلى الذاكرة مسارعة الرئيس الأميركي هاري ترومان إلى الاعتراف بقيام دولة إسرائيل بعد دقائق من الإعلان عنها في 14 /مايو/ 1948. كما أن هذه الخطوة الترمبية تنهي حقبة طويلة كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة فيها ترفض باستمرار أن تعترف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، وكانت تقرّ بأن اتفاقية جنيف الرابعة والقوانين الخاصة بالاحتلال العسكري هي ما ينطبق عليها. غير أن إدارة كلينتون كررت إعلان أن مصير القدس الشرقية والغربية تقرره نتائج مفاوضات الوضع النهائي بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، لكنها صمتت صمتًا مطبقًا بشأن انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على القدس الشرقية.
وفي 9 مايو من عام 1995، صادق مجلس الشيوخ على هذا المشروع الذي تحوّل إلى «قانون نقل السفارة إلى القدس» (القانون العام 104 - 45) يوم 23 أكتوبر 1995. واعترف هذا القانون بالقدس «غير المقسمة» و«الموحدة» و«المجتمعة الشمل» عاصمة لإسرائيل، واشترط فتح السفارة فيها حتى موعد أقصاه 31 مايو 1999. ونص القانون على أنه بدءًا من العام المالي 1999 تُخفّض ميزانية وزارة الخارجية الأميركية الخاصة بالصيانة والبناء في كل دول العالم إلى نصفها إلى أن يتم فتح السفارة. وجرى رصد 100 مليون دولار لبناء السفارة. ومُنح رئيس الولايات المتحدة سلطة تخوله تعليق هذه الخطوة فترات لا تتجاوز أي منها 6 أشهر، إذا ارتأى أن ذلك «في مصلحة الأمن القومي الأميركي». ومارست إدارة كلينتون صلاحيتها في تعليق بحجة أن النقل الفوري للسفارة يضر بنتائج مفاوضات كامب ديفيد بين الفلسطينيين وإسرائيل.
ويُعتبر هذا القرار الأميركي اعترافا من الولايات المتحدة بقرار الاحتلال الإسرائيلي ضم مدينة القدس المحتلة، ومخالفا للقرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن بشأن الأرض المحتلة ومنها القدس، ومخالفا لاتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ومخالفا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، الذي يحرم احتلال أراضي الغير بالقوة، بل ويحرم الميثاق مجرد التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية. ومخالفا لقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر1947. ولقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، علما بأن هناك العديد من القرارات التي تخص القدس كأرض عربية محتلة، وتنص على تحريم وإبطال الإجراءات التي تتخذها دولة إسرائيل بشأن القدس. ومنها: قرار رقم 2253 الصادر عام 1967 عن الجمعية العامة، وقرار مجلس الأمن بتاريخ 25 سبتمبر 1971.
مما لا شك فيه أن رزمة الانتهاكات والمخالفات القانونية تكفي لدحض القرار الأميركي الذي لا يمكن الدفاع عنه، ووصفه بـ«القرار السيادي» حسب زعم أنصاره، بل هو قرار يُعبر عن «الانحياز» السياسي الأميركي إلى جانب إسرائيل الذي عبرت عنه الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال العقود السبعة المنصرمة من الزمن، حيث مرت العلاقات بين واشنطن وتل أبيب بالمراحل التالية: مرحلة التأسيس: 1948 حتى 1953 أي عهد الرئيس هاري ترومان؛ مرحلة التوازن النسبي: 1953 – 1963 عهد إدارة الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور التي شهدت بعض التوتر والأزمات. ولم تكن إسرائيل في هذه المرحلة قد انتقلت نهائيا بعد إلى مرحلة الشراكة مع الولايات المتحدة، بل كانت أقرب في علاقاتها الوطيدة إلى كل من فرنسا وبريطانيا.
وشملت هذه المرحلة عهد إدارة الرئيس كيندي القصيرة التي لم تشهد تطورات دراماتيكية باستثناء إرساء أسس وطيدة للعلاقات التي تحولت إلى صداقة وثيقة، ترجمت في تدشين برنامج المبيعات العسكرية إلى إسرائيل. ومن جهة أخرى قام كيندي بأهم مبادرة أميركية لمعالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين.
وشكلت عهود إدارات جونسون ونيكسون وفورد 1964 - 1976 مرحلة التواطؤ والتحالف بين واشنطن التي مهدت لمرحلة التحالف الإستراتيجي 1977 ـ 1988 التي تجمع هذه بين إدارة كارتر الديمقراطية وإدارة ريغان الجمهورية اللتين اختلفتا نسبيا في سياستهما الشرق أوسطية، ولكنهما اتفقتا على توطيد العلاقة مع تل أبيب رغم الخلافات والأزمات التي مرت بها تلك العلاقة على خلفية طبيعة المبادرات السلمية الأميركية لحل أزمة الشرق الأوسط.
وتعاقبت في مرحلة إنقاذ إسرائيل من نفسها: 1989 – 2016 إدارة الرئيس جورج بوش الأب؛ والرئيس وليام كلنتون؛ والرئيس جورج بوش الابن. والرئيس باراك حسين أوباما. وتخللتها متغيرات إقليمية ودولية. وكان قاسمها المشترك الضغط على إسرائيل كي تتبع سياسة ضبط النفس والنأي بنفسها عن أي مغامرات عسكرية تُحرج واشنطن.
إجمالاً، لم يعكس تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية أية مواربة أميركية في إعلان انحيازها لصالح إسرائيل، وعملية إعادة اكتشاف المُكتشف تمثل حالة من حالات الهذيان السياسي التي ينبغي تجنبها.