حقيقة لا بد من الاعتراف بها، فبعض جولات المسؤولين، خاصة من يبحثون عن التبجيل والتضخيم، تضر ولا تنفع، فإضافة إلى إشغال الجهة التي ينوي زيارتها، هناك ميزانيات ضخمة تصرف على بهرجة الزيارة وتقديم ما يليق بالضيف الذي لا يستنكر ما يشاهده، بل يسجلها نقاط تميز للفريق الذي أشرف بدوره على كل هذا الزيف، نعم هو تزييف من كل الأطراف، فالزائر المسؤول تخلى عن الهدف الأساسي للزيارة، وهو متابعة الخلل والاستماع إلى ملاحظات المواطنين ليتقمص دور الشخصية المهمة شكلا لا مضمونا، وذلك المستقبل بدوره تلقى خبر الزيارة الميمونة فانطلق يرسم مسارها وفق ما يريد للمسؤول أن يراه، حاجبا الرؤية عن الكثير من المواقع والزوايا التي تكشف تقصيره وإخلاله بالأمانة، وهو واثق تمام الثقة أن ضيفه العزيز لن يخيب ظنه وسوف يتقيد بالبروتوكول المعد سلفا، وسوف يمر بالشارع المحدد والمبنى المحدد، وسيقابل الأشخاص المحددين أيضا، وإن عاكس أحدهم الخطة فهو يتعب نفسه، لأن صاحب المسؤولية لن يلقي بالاً لما يقوله هذا إن لم يبتسم في وجهه ساخر، ويتجاوزه إلى حيث اصطف الجموع رافعين أصواتهم بالأهازيج الترحيبية التي تضخم الأنا فيه إلى أبعد ما يصله خياله، بحيث لم يعد يسمع سواها، أما ذلك المشتكي رداءة الحال فما له إلا أن يبلع مرارته ويغادر المكان ساخطا خائبا.
وهنا نتساءل إن كان لنا ذلك؟ إذا لم تكن زيارة المسؤول للتعرف على نواحي القصور والاستماع لشكاوى المواطنين فما الهدف الحقيقي من الزيارة؟ زيادة في المصروفات التي من المفيد أن تستغل لترميم مبنى أو تنظيف آخر، وتشجيع الاستمرار في الأساليب المعمول بها عند زيارة أي مسؤول، وهي إبلاغ الجهة بموعد الزيارة ثم تفويض منسوبيها لتحديد مسارها وكل تفاصيلها، وهذا الأمر بالطبع يتيح لتلك الجهة فرصة إخفاء مواطن الخلل وإبراز أماكن محددة تقوم بإصلاح ما فيها من عيوب، بحيث تقدم على أنها النموذج الذي عليه المرافق أو الإدارات الأخرى.
المسؤول -ولا شك- يعلم أن هذه ليست الحقيقة، لكنه لا يريد أن يفتح على نفسه بابا قد يكلفه الجهد، وزيارته في الأساس شكلية وحتى يقال إنه يقوم بمهام عمله ومسؤولياته خير قيام، والمصيبة ما يكتب ويقدم في تقارير هذه الزيارات، وكم نتمنى أن تكون هذه التقارير مصورة، بحيث تحتوي مشاهد حية للمسؤول منذ أن وطئت قدماه المكان إلى أن غادر، ومرفق لذلك الرصد إحصائيات موثقة لما اطلع عليه من مشاكل وما عمل على حله منها، وكم مدة الوقت الذي خصصه للاستماع إلى شكاوى وملاحظات المواطنين، وكيف هي ردوده وتعاطيه مع مشاكلهم خلال ذلك اللقاء، أيضا لا ضير من الاطلاع على فواتير المبالغ المصروفة للاستعداد لهذه الزيارة، ومحاسبة الجهة على ما صرف منها على البهرجة والبخور واللافتات الترحيبية التي تملأ الأماكن دون فائدة تذكر.
إن المطلوب في مثل هذه الزيارات هو التركيز على حسن التعامل مع المواطنين والاستماع لملاحظاتهم، فهذا الشخص وضع في مكانه هذا لخدمتهم والواجب عليه حسن التعامل وإظهار لين الجانب مع التلطف في الرد عليهم، ولتكن القيادة الحكيمة قدوته في ذلك، وكيف أن الملك بنفسه وولي عهده يستقبلان المواطنين في مجلسيهما ويستمعان لما لديهم بتودد وبشاشة، غير أن تعامل بعض المسؤولين يعاكس نهجيهما، وكم هي المشاهد التي نرى فيها المسؤول يكسر بخاطر مواطن كبير في السن أو صاحب حاجة متجاهلا وجوده، قد يتعذر أحدهم بضيق وقته، وأن البعض يسهب ولا يمتلك مصداقية فيما يقول، وهذا الكلام ليس بصحيح، فلن يسعى شخص إلى تعريض نفسه للمهانة إن لم يكن صاحب حاجة، والكارثة أنك يا من وضعت في هذا المكان لمساعدته تدير ظهرك له مظهرا له اشمئزازا وعدم تقبل.
ما هو ملاحظ وملموس أن إدارة الدولة بمسؤوليتها جميعها تشهد تطورا شاملا يستوجب أن يتماشى معه الكل، لذلك فالأساليب القديمة التي كانت تدار بها الوزارات وحتى الإدارات يجب أن تتغير وتخلع عنها رداء العظمة الذي يحجبها عن الجماهير، وأكبر موظف إلى أصغرهم يجب أن يترجل عن برجه العاجي ليتعرف عن كثب على مشاكل الناس، وليس من المنطق أن تصبح جولاته التي هي من مهامه الأساسية عبئا ماديا ومعنويا ترصد لها ميزانيات وتشكل لها لجان تضم مجموعة أشخاص تهمل أعمالهم الأساسية في سبيل الاستعداد الأمثل لاستقبال حضرة المسؤول، لا نقول لا يُقدر ولا يُحترم، لكن ما هو متبع حاليا غير مقبول، وهو كأحد أعضاء منظومة التغيير والمساهمين في تحقيق أهداف الرؤية الوطنية، يجب أن يطوي ذلك الرداء الذي قد يعيق حركته وتفاعله في الميدان مع الموظف والمراجع وحتى حارس الدائرة، وفعلا نحن نفتقد المسؤول الذي تقوده الأريحية والبساطة عوضا عن الرسمية المبالغ فيها والتي لا تقف عنده، بل حتى مرافقيه ومستقبليه يستنفرون كل حواسهم لتتواءم مع الحدث، حتى إن بعضهم ينقلب وحشا لديه الاستعداد للفتك بمن يتجرأ ليعترض خطوات الضيف العزيز، ناهيك عن الآخر الذي قد يخاطر بنفسه ملقيا بها وسط جموع المشتكين وهم يقتربون من المسؤول ، معتدا بما حققه من بطولة.