لا أعتقد أن أحداً يشعر بالكآبة والحزن أكثر من المعلم الأستاذ حين يقف أمام طلابه، ولا فرق على مقعد بالثانوية العامة أو في قاعة بالسنة الرابعة من الجامعة. عقول نظيفة ومبدعة ولكنها توظف في الاتجاه الخطأ. عقول عودت على الحشو والتكرار والتلقين والحفظ، تعطلت لديها مواهب الإبداع وتحطمت فيها كوامن التمايز في الفوارق. أمامي بالفصل الدراسي الجامعي ما يقرب من خمسين طالباً تستطيع أن تختصرهم جميعاً في ـ دماغ ـ واحد ثم تستنسخ منه كل البقية. فصول كاملة لا تتعلم شيئاً، لأن الجامعات بكل قاعاتها تحولت إلى قاعات لا هدف لها إلا التهيئة لامتحان نهاية الفصل ولاجتياز المادة بأي درجة تكون، ولهذا يحول النظام هؤلاء المبدعين إلى مجرد أجهزة تسجيل للتفريغ على الورق.
لا يسمح حتى النظام الجامعي لأستاذ الجامعة بالخيال، وكل ما هو أمام أستاذ الجامعة ليس إلا شروحات الورق المقرر، وهذا أول انحراف في وظيفة أستاذ الجامعة. المنهج الورقي المقرر وظيفة الطالب لا الأستاذ، ووظيفة الأستاذ الجامعي الحقيقي أن يحلق خارج المكتوب وخارج ما بين الأغلفة المنهجية. وللأسف الشديد فإن كثرة المحاذير حول أستاذ الجامعة لا تسمح له بأن يعطي طلابه كل ما هو مؤمن به ومؤتمن عليه. يشعر أستاذ الجامعة، وخصوصاً في مجالات العلوم الإنسانية، أن الطالب هو الرقيب الأول عليه، وهذا ما أحال فصول الجامعات، ومرة أخرى في العلوم الإنسانية بالتحديد، إلى ثكنة أمنية رقابية. هذه البيئة أقرب للنفاق منها إلى طبيعة الفصل الجامعي. وحتى في المادة الدراسية الواحدة التي يتناوب على شعبها الدراسية بضعة أساتذة، لا يستمتع الطلاب بالفوارق ما بين أستاذ وآخر طالما كان الجميع أسرى لأوراق منهجية صارمة وطالما كان العقد الدراسي ما بين الجميع هو شروحات ذات المنهج.