لدى المجتمع العربي تراث هائل وعريض من المجلدات الأدبية والسير الشعبية المطولة التي أجبرنا على حفظ بعضها في طفولتنا لما تتضمنه من استحضار حماسي يحكي أساطير نظرية عن إرادة الشعوب بوصفها اشتقاقاً من إرادة الله، ولذلك استحقت الإطراء والتمجيد وأغرت التيارين القومي والثوري – مع أوج ازدهارهما في القرن الماضي- على الإفراط في استخدام مفردة (الشعب) كما لو كانت ملح الكلام، وقداس النضال ومفتاح أحلام شرقنا المهيض.
كانت (الشرعية الثورية) تستدعي الشعب مفتتحاً لمنشوراتها السرية وتحشده قرباناً لصراعاتها البينية وتستروح الإقامة المرفهة على أكتاف البسطاء الذين لم يتبدل وضعهم الاقتصادي والمعرفي عما تركهم عليه آدم من فقر وأمية وسطوة تخلف وسذاجة مرددات خرافية.
تلك أيام خلت.. فما بالنا منهمكون في إثارة الغبار حولها وتسلق خرائبها الدارسة؟ وحدها مواعظ الشعراء تعفينا من هذا الشرود.. أحدهم قال (ما مضى فات) مستدركاً (ولك الساعة التي أنت فيها)..
هل نحاكم الماضي؟ كيف وتراثنا يؤكد أنه لا حاضر لمن ليس له ماض أم نتخفف من المكابرات ونعلن العجز عن استلهام الرؤى المعاصرة والتكيف مع الديموقراطيات العريقة الموصولة بخيال قروي عن تجارب عربية ناشئة ويافعة ومنها الوشيك على بلوغ مقامات الدهشة والرشد حد اعتقاد البعض؟ ألم نقل عن راهننا المعاصر تقاطعه مع زمن الشرعيات الثورية، والوطنية، والقومية.. وإن حقب التغرير بالشعوب قاربت الأفول؟ ألم نتدافع إلى الشرفات ونجزم بأن شعبنا العربي غدا قاب قوسين من الشرعية الديموقراطية بقوانينها الصارمة وحتميتها التاريخية وقواعدها المعمدانية الأميركية؟
هو زمن جديد.. لا علاقة له بميشيل عفلق وصلاح البيطار، ولا رابط يجمعه مع الشغيلة والبلوريتاريا الكادحة. زمن العولمة بسحرها الأخاذ وآلياتها المذهلة التي تتولى ملاحقة المطلوبين وإرسالهم إلى الآخرة بواسطة نواعم دون طيار!
ينتظم عقد هذا الزمن مع قيام الدولة المؤسساتية المحتكمة لسلطة الشعب العربي الجبار ومهارة نظمه الحاكمة وقدرتها على فصد الأوردة وقصم الظهور وتوزيع أوصال المجتمعات (السودان نموذجاً)؟ وفي السياق.. تتراءى صناديق الاقتراع في المخيلة المصرية والأردنية مثل سرب حمام زاجل لا يضل طريقه إلى بيت الطاعة! لا مكان في هذا الزمن لدولة الحزب الشمولي الذي لا صوت يعلو عليه، فالنظام العربي الديموقراطي المفترض تعميم نماذجه المتقاربة من تونس إلى موريتانيا ومنهما حتى اليمن ينتهج التعددية الحزبية سبيلاً للتباري البرامجي والتنافس المفتوح على ثقة المجتمع لتنقسم هيئته الناخبة إلى أغلبية حاكمة لا تتغير وأقلية متربصة أو بالأحرى معارضة مستأنفة.
هل علمتم مقدار تعلق الحاكم بالمعارضة السياسية التي تناهضه ظهراً وتأنس لمكرماته مساءً.. إنه يتزين بها كقلادة تتدلى على صدر نظامه وأسطوانة مشروخة تبكي كلما فاته القيام به، وهي لا ترمي الوصول إلى الحكم بل ولا تضمر نوايا سيئة من هذا القبيل.. ولعلها في بعض حالات التجاوز تتشهى المشاركة المتجاورة مع بركات النظام، وكلما حان استحقاق انتخابي أو دنت جولة سباق على تثبيت التوابيت فإنها غير مطالبة بممارسة الديموقراطية في حياتها الداخلية.. مصداقاً للحديث النبوي (كيفما تكونوا)..
أظنني أسهبت في توصيف ملامح عصرنا الديموقراطي.. وهل لدينا في الديموقراطيات الناشئة ما ننشغل به غير وصف الأمنيات المتسربة من بين أنامل شعوبنا؟
أنا لا أستبعد أن تصير الأماني من هذا الطراز في قابل الأيام فريضة غائبة لا يفوتنا التطلع إليها مع أمام قادم سيفرج الله كربته! ترى.. هل اتضحت أسباب الارتباك التي تتملك الباحثين عن ترجمة واقعية لأكثر المسميات تداولاً في وطننا العربي؟ فحيثما يزداد الهذيان المتعلق بسلطة الشعب يكون الاستبداد أشد وطأة.. وكلما تواترت المأثورات الغربية عن ديموقراطيات شرق أوسطية ناشئة دلّ ذلك على شمولية متأصلة تعيد إنتاج ذاتها بغطاء مموه وأقنعة مهترئة..
إنها طبائع عربية برزت منذ بدأ عهد شعوبنا بالملاسنة وجماليات اللغة وهي تستوعب المتناقضات.
وما العمل..؟
إن حاجتنا في الوطن العربي لمحاكاة الآخرين لا تلبيها مقولة.. البدء من حيث انتهوا قدر الحاجة لاكتشاف الذات، ومعاينة الوجع النفسي في المكون الثقافي والمعرفي لشعوبنا أولاً..
أجيال تتعاقب وشعارات تتوالى بين مقبل ومدبر، وتجارب تعبر فضاءاتنا العربية المفرغة من وعي الإنسان ذاته والمعزولة عن دوائر الاستشعار الجماعي المشفوع بوضوح معنى المفردات التي نتداولها، ومع كل هذا التعاقب والتواتر ما نزال على شغفنا العفوي الذي يكرس الأنماط البدائية في علاقتنا مع الحياة وتحدياتها..
لا تطاوعك اللغة أحياناً على توصيف وتشخيص الأوضاع في غير قطر عربي.. ثورات دون ثوار.. وديموقراطيات من غير ديموقراطيين.. وهتافات تشق عنان السماء ولا تستطيع رعاية شتلة صغيرة تحمل عبق الحرية وتبشر بفاكهة يضوع منها أريج الوطن وتهضمها معدة الشعب.
فمتى نكون نحن؟ ومن الذي أسقط الشعارات البراقة في تاريخنا الحديث، أهو سوء التطبيق أم تعرضها للخطف وظهورها إلى سطح الأحداث محمولة على أكتاف خصومها.. وتعاطي المجتمعات معها بتوجس ولذلك يكون سقوطها اعتيادياً بما يشبه صلاة الجنازة على روح الغائب؟!
هذا على الأقل ما توحي به قراءتنا لسفر التبدلات التي مرت بها شعوبنا العربية في ماضيها القريب.. وفي تقديري أن القراءة ستكون ذاتها لما نمر به اليوم.