هناك أزمة سائدة في المنطقة، وهي التغول في الماضي، فالفخر بحضارة سبعة آلاف عام كالفخر بالفراعنة في مصر، أو استنهاض ذكريات الفينيقيين في الشام، أو البابليين أو السومريين في العراق، أو الساسانيين في فارس، بهدف اعتبارها نماذج مثالية متكاملة. هي مجرد حالة نوستالوجيا يميل فيها الإنسان إلى تخيل الذكريات الجميلة التي تعوضه عن هزائم الحاضر الشخصية أو الاجتماعية أو الثقافية، دون الوعي بأن كل الحضارات القديمة هي حضارات بائدة، بل إنها بالمقارنة مع الحاضر الإنساني الجديد فهي حضارات متخلفة لم تصمد أو تستمر، لأنها لم تعد تملك مقومات البقاء والاستمرار، وعند المقارنة سنجد بن الثقافة العربية ما زالت تقاوم حتى اليوم، وذلك بسبب امتلاكها نقيضين: الأول، هو قدرتها على البقاء، والثاني: هو ماضويتها وتعلقها بالماضي الجامد، فهي في نهاية المطاف ما زالت ثقافة حيّة تستوعب التغيرات الإنسانية.
تحدث هذه النوستالوجيا لمن يتخيل أن من يُطلق عليهم السلف الصالح كانوا نماذج مثالية، ولم يكن كثير منهم محل خلاف واختلاف وشك، حتى في أخلاقهم لتتحول أعمالهم وأسماؤهم في أيامنا هذه عند البعض إلى نماذج ترمز إلى المثالية الكاملة.
يحدث هذا حتى لكثير من الفلاسفة والمفكرين، ممن لازالوا يرون أرسطو أو ابن رشد مصادر إلهام للحاضر، ويحدث للأدباء والشعراء ممن يجعلون المتنبي أو شكسبير مصدر إلهام أوحد للحاضر، فلا تعالي المتنبي ولا مأساوية شكسبير هي انعكاس لحاضرنا المعاصر، والذي أصبح يتجه إلى إلغاء تعليم الأطفال للقراءة والكتابة.
ويحدث هذا حتى لأولئك القراء ممن يبحثون عن الأدب في كتب ألف وليلة، وعن الثقافة في كتاب الأغاني، لأن نظرتهم إلى الماضي مثالية ترى أن السلف أو السابقين هم عماد المعرفة، رغم أن المثقف العادي من القرن الحادي والعشرين قد يملك من المعرفة والمعلومات النافعة أكثر مما يملكه جميع كتاب القرن الميلادي العاشر، وذلك بسبب التقدم العلمي والمعرفي الذي حدث للبشرية.
حالة تذكر الماضي الجميل، أو ما يسمى النوستالوجيا، يبدو أنها طبيعة بشرية طفولية ينقصها النضج، إذ إنها تشبه تذكر الطفولة الجميلة عند البالغين، والرغبة في البحث عن البراءة الخالصة، وهي تعد رغبة في الرجوع إلى البيت والحنين إلى الماضي مع الشعور بالوجع، فالنوستالوجيا حالة إنسانية جميلة، ولكنها غالبا ما ترمي صاحبها في فخ الخيال، وتهوي به بعيدا عن الواقع، كما أن هنالك فرقا وفارقا بين اعتبار التاريخ أو الماضي وسيلة لفهم التراكمات التي أدت إلى الحاضر، وبين تذكر الماضي باعتباره مثاليا ونموذجا نحتكم به ونضاهي به واقعنا المعاصر.
في السعودية، نجد أن هناك تيارا اجتماعيا ناشئا جديدا أصبح أقرب إلى الواقع، فهو لا يريد إلا مصلحة بلاده الوطنية، ولا يتعامل مع المعطيات إلا بذرائعية إيجابية، ترى أن المصلحة المشروعة قبل الإيديولوجيا المختنقة، وأن الواقع أهم من الخيال، وأن الخيال يجب أن يكون مسخّرا للواقع، وهذا التيار الشبابي الحيوي ظهر على أنقاض التيار الماضوي المتحجر الذي ساد صوته لمرحلة طويلة. فقابلية الشعب السعودي على التعلم وإقباله على السياحة والعلوم وانفتاحه الواقعي على الحضارات الإنسانية، هي أحد أهم العوامل التي ساعدته في التخلص من ذلك التيار المكبل بالماضي المثالي المصطنع.
الخلاصة، هي أننا بحاجة إلى البحث في الماضي، كي نفخر بأنفسنا، وكي نتعلم ونأخذ الدروس، ونفهم أكثر من نحن، ولكن دون أن نكبّل أنفسنا عن الانطلاق إلى الأمام، وأن ننشغل بإصلاح الحاضر قبل أن نفخر بالماضي، وأن ندرس بأن نجاح وفشل الدول له أسبابه، وأن قبولنا للحقائق العنيدة ورغبتنا الشامخة في الإصلاح هي التي تنجينا وتلهمنا لبناء واقع جديد نفخر به.