الحداثة والتراث، ترادفها ثنائيات المادة والروح / الدين والدنيا / الأصالة والابتداع، وهي ثنائيات وقفت عقبة في طريق الفكر الإنساني، وتطبيقاته الواقعية في المجتمعات، فجميع الأديان – على سبيل المثال - كانت تواجه الرفض تعصبا لأصالة وتراث تجريديين، تراث الآباء والأجداد، وإلا فهل هناك حديث مطلق وقديم نقي؟ ليس هناك حداثة مطلقة ونقية، فكل حديث فيه جذور من القديم، وفق ذلك تسقط الثنائيات. ناقش المفكرون هذه المسألة تحت عناوين مختلفة، فكان التناص عند جوليا كريستيفا، والحوارية عند باختين على سبيل المثال لا الحصر، والطابع الحواري للغة ينسحب على الفكر، فكل فكر هو خلاصة حوار وامتزاج أطراف تتشارك أمشاجا فكرية واحدة..
الثنائيات هي نتاج الذهنية الحدية، التي تتعامل مع الأشياء بمنطق متصلب، لا يتماشى مع قانون النسبية الذي يحكم طبيعة الأشياء، وهي تحدث انفصاما يعيق حركة الفكر فضلا عن نموه، ولذلك نجدها تزدهر في الأزمان التي يخمل فيها العقل، ولعل هذا ما حدث حين واجه الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ معضلات متوالية، لكي يتقبل المجتمع أبسط تقنيات العصر، مثل الهاتف والسيارة، كونها ترمز إلى حضارة الآخر الكافر، وتمثل الانقياد للدنيا في مجتمع يرى في الدنيا نقيضا للدين، الذي صنف نفسه حارسا له.
وعلى العكس من ذلك، تتوارى الثنائيات في العصور التي يزدهر فيها الفكر، ففي العصر العباسي مثلا كان الأطباء المسيحيون يعملون ويعلمون إلى جانب المسلمين، وكانت الفلسفة اليونانية تدرس وتناقش في أعلى مجالس الدولة، إلى جانب الفقه ومسائل العقيدة، ولم يكن الفكر وقتها يعاني الفصام، ولم يجد طالب العلم نفسه مضطرا للاختيار بين شيئين متضادين، فباستطاعة الفقيه أن يدرس الكيمياء، ويبرع في الرياضيات والمنطق في الوقت نفسه، وكلنا يعرف كيف صنف الخليل ابن أحمد معجما ضخما على أسس رياضية، ومنطقية، في مزج عبقري نادر بين علم من علوم الإنسان، التي تستعصي على صرامة المنهج، والعلوم التجريدية البحتة..
هذه الثنائيات تشغلنا عن التفكير والإنتاج، من جهتين، فكم من الطاقات والحبر أهرق في معارك لا طائل من ورائها بين التراث والحداثة مثلا.. وهي من جهة ثانية تفرض على المفكر الالتزام بفكرة تجريدية غير واقعية ولا عملية، تفترض حدودا فاصلة بين الأشياء، وتقيم على أساسها مفاهيم مغلوطة غير واقعية للأشياء. وفق منطق الثنائيات هذا، كيف كان سيمكن للخليل توظيف الرياضيات في المعجم، لو كان طالبا في إحدى جامعاتنا التي نصبت نفسها بزعمها حارسة للتراث؟ ووفق هذا المنطق نفسه لم يكن يحق لطالب طموح أن يدرس منطق ابن تيمية وفلسفته من منظور فكري حديث، في جامعة أخرى تزعم لنفسها هذه المرة حراسة الحداثة..
نحن بين طرفين متناقضين، إما تحجير الفكر باسم حماية التراث، أو التبعية المطلقة باسم الحداثة، بينما لا يفترض أن يكون الوضع هكذا، فالتراث لا تتم حمايته بعزله وتجميده، بل من خلال فتحه على الحياة، وتنمية الجوانب القابلة للنمو فيه، بتعريض البذور الكامنة فيه للهواء لتنمو وتتفتح، وتنسجم مع إيقاع الحياة الراهنة المتسارع، وبصرف النظر عن إيجابية هذا الإيقاع أو سلبيته، فهو يبقى واقعا مفروضا، وبالتالي فإن ضمان الاستمرارية لذاكرة ثقافية
ما لا يمكن أن يتم إلا بإيجاد مكان لها في المجرى الحالي للحضارة الراهنة، وبالمقابل ينبغي للإنسان وهو ينخرط في رهان الحداثة ألا يضيع الأرض التي يقف عليها، وأن يمد فيها جذوره جيدا..
ولعل أعظم مشكلة تنخر في هيكل مجتمعنا، أننا لا نعرف التوسط، ففي الثمانينات مثلا أراد بعض مثقفينا قرع باب الحداثة، وفتحه باتجاه التغيير، فكسروا المفتاح، لنعود في التسعينات إلى انغلاق لا مثيل له، أنتج لنا هذه الذهنية الحدية، التي لا تعترف بالحوار، ولا تسمح به، في ظل أبويات ووصايات من مختلف الجهات. بين الحداثة والجمود، بين الحاضر والماضي نقف موقفا خاطئا، حين ننظر إلى الأمام في الوقت الذي علينا فيه أن ننظر إلى الخلف، وندير ظهرنا للأمام في الوقت الذي علينا فيه أن نتطلع قدما.